فقراء البر والبحر
خولة مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 أغسطس 2010 - 10:01 ص
بتوقيت القاهرة
إنه الصيف.. ترتفع درجات الحرارة شيئا فشيئا وكلما ارتفعت درجة الحرارة، حزم الكثيرون أمتعتهم ورحلوا..
إنه الصيف.. ف إلى البحر در. تقترب من الماء ليحن ببعض برودته على ما أنكره عليك الهواء.
بعضهم يهرب من اليابسة للماء.. يبحث عنه مرة أخرى.. يطفئ شيئا من قسوة الحر أو ضمأ الأيام. بين موجة وأخرى، يرحل بفكره بعيدا، يغتسل من تعب الأيام ويسافر بعيدا عن مدن الكونكريت، وما يحيط بها من مدن تغطى فقرها بالصفيح.
هى الأخرى، مدن الصفيح والقرى النائية ترسل بأبنائها للبحر. يرحلوا من حرارة الزمن والأيام وصعوبة الوصول إلى فرصة عمل أو وجبة غذاء إلى البحر الذى لا يغلق بابه وسماءه ولا يبخل بمائه! هم فتية لا تزيد أعمارهم على العشرين. تلفظهم مدنهم وقراهم إلى فضاء الكون. ينبشون فى فضاء أيامهم عن مساحة لهم فى مزرعة أو مصنع أو حتى «بقالة» على ناصية شارع غزته الغمامة حتى أصبحت هى الساكنة فيه والسكان ضيوف!
هم لم يختاروا موسم الصيف كما المصطافين الا أن تجارب الشباب الآخرين علمتهم أن احتمال مقاومتهم لبرودة وأمواج البحر العالية شتاء أقل بكثير من شهور الصيف الراكدة، حيث لا نسمة ترطب جوا امتلأ بالهموم.
كل ما تتطلبه رحلتهم كثير من اليأس وسنوات من الضياع وأصوات تردد «لا مفر لكم من البحر» وبعض أموال هى إما «تحويشة» العمر أو قرض بديون تنهشه.. هى الرحلة الوحيدة، التى لا تستدعى تأشيرة ولا ورق. وسيلة النقل الأهم، قارب صغير يتسع لبضعة أجساد فقط يقوم صاحبه وشركاؤه بتكديسهم فيه جميعا. حمولة من الوجوه المتعبة المهمومة. تكاد تحسبها جثثا لولا ذاك الضوء الخافت فى العيون. أحدهم، محمد قال «أنا أعرف أننى 90% قد أموت فى هذه الرحلة ولكن هناك 10% وهى أملى».
مثل محمد كثيرون رحلوا يزحفون من الريف إلى المدن ومن البلد إلى الحدود ومنها إلى بلد أقرب منهم إلى البحر.. كلهم يسعون إلى الاقتراب منه ليرتموا فى حضنه، الذى قد يمنحهم دفئا بخلت به عليهم مدنهم وقراهم وقدرهم؟
كثروا حتى كثرت أسماؤهم..بعضهم يناديهم بـ«الحراقة» لأنهم يحرقون جوازات سفرهم وأوارق ثبوتيتهم قبل أن يقفزوا إلى بطن المركب الصغير.. وغيرها من المسميات، حتى أن بعض علماء الاجتماع تفرغوا لدراستهم وراحوا يبحثون لهم عن تصنيفات ومسميات. عبدالحميد يقول: لماذا لا يقولون فقراء أو ربما يضيفوا صفات أخرى.. يائسون.. عاطلون.. ليسوا بعيدين أصلا عن الموت، فلماذا يخشونه إذا جاء فى عرض البحر بين موجة وأخرى.
هم أيضا يعرفون أنه رغم المسميات واختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم إلا أن ما يجمعهم هو الوصف «فقراء» و«البحر»، الذى سيختطفهم فى أكثر الأحيان إلا ما ندر!
البحر الذى يكون أحيانا أكثر رحمة ورأفة من مدنهم وقراهم وأوطانهم، لأنه إما أن يأخذهم إلى البر الآخر أو يلقى بهم فى بطن موجه فينهى مشوار حياة قد طال.
علماء الاجتماع راحوا يدرسون الظاهرة وقالوا كلمتهم مرارا حول العصابات، التى تتاجر بالبشر وكثير من هؤلاء الشباب هم من ضحاياهم.. قالوا إنها «الاتجار بالبشر» وبقى محمد ينتظر بين الموجة والموجة. لقد قرأ عنه أو عنهم ولكنه رغم ذلك رحل إلى قلب البحر واستقر هناك فى أعمق أعماقه وساد شىء من الهدوء أو الارتياح.
. رحل محمد من قريته البعيدة حيث لا زرقة إلا لون السماء ولا رائحة الا لزهر البرتقال.. رحل ليكتشف أن هناك ماء بلون السماء ورائحة لملح البحر لا تشبه تلك الرائحة بقريته.. وفيما كان ينظر إلى الأنوار الآتية من بعيد لكأنها الخلاص الأبدى لرحلة عذابه، غافلته سمكة أو نسمة أو موجة عالية أخذته إلى الظلمة، التى لم يشهد مثلها فى بلده إلا فى مواسم العزاء والرحيل حيث القرية تتشح بسواد الحزن وسواد ما ترتديه نساؤها.
هو الصيف إذن والبحر.. بعضهم يستحم بشمسه ليلون جسده بذاك اللون البرونزى.. وآخرون، البحر وظلمة لياليه الحالكه ملاذهم وعنده أما نهايات لعذاباتهم الطويلة.. أو عودة إلى عتمة لا رائحة لها، فقط لها لون حزين.
قلب البحر كبير، يتسع للبشر والخشب والسمك. يمد شطآنة للأجساد المكتظة بالغنى وأيضا لأقدام الفقر العارية، إنه طريقها إلى الخلاص من وحشة الجوع وربما من جوع الوحوش التى لا تشبع.