تعديل قانون الأحوال الشخصية

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الأربعاء 10 أغسطس 2022 - 6:55 م بتوقيت القاهرة

يرى الفيلسوف زكى نجيب محمود أن أسوأ ما يمر به المفكر أو الكاتب أن يخشى غضب القارئ، أو يخاف من ردة فعله، فهنا تضيع الحقيقة، ولن يوجد لا إصلاح ولا إبداع ولا تنوير ولا موضوعية؛ وبمناسبة الحوار الوطنى الجارى لا بد من طرح لموضوعين حساسين للغاية، فالمقصود من الحوار مناقشة كل ما هو مختلف عليه، وكل ما يمثل تحديًا لمستقبل هذا الوطن، فلا يجب إغفال موضوع واحد خوفًا من أحد أو فئة أو طبقة أو نوع (رجل أو امرأة)، إذا كنا جادين فى الإصلاح الشامل.
يهتم الحوار بمسألة الحريات بجميع أنواعها، والمطالبة بالعدالة الناجزة فى موضوعات كثيرة، وقد تحدث فى ذلك الكثيرون، إلا أن الحوار لم يتطرق لموضوعين شائكين: الأول تعديل قانون الأحوال الشخصية، والثانى تعديل قانون الإيجار القديم، تتهرب منهما حكومة تلو أخرى، فما أن تعلن حكومة عن قرب التوصل لحل لأحد الموضوعين حتى يظهر انقسام كبير فى المجتمع، فتتراجع الحكومة، وتؤجل مقترحاتها لأجل غير معلوم، هذا ما حدث بالضبط بخصوص قانون الإيجار القديم، طبقا لما صرح به وزير العدل الموقر فى أحد لقاءاته التليفزيونية المؤخرة! • • •
نعرف أن الجمعيات النسائية وحقوق المرأة من أقوى الجمعيات المدنية إن لم تكن أقواها على الإطلاق، وهذا جيد ويُحسب للدولة، باعتبار المرأة أضعف من الرجل، وعليه يجب مساندتها، ولكن حين تعتبر نفسها المرجع الوحيد الذى لا يُرد له كلمة، أو أن تتخطى الشرائع والأعراف والمنطق فى سبيل الحصول على مكاسب وقتية ستعود على المرأة ذاتها والمجتمع بأثره بالضرر مستقبلا، ويصبح مشروع الأسرة والزواج فى خطر، فهنا لا بد من وقفة جادة وصريحة، فلا يمكن أن يتمثل الخصم والحكم فى شخص واحد.
المناداة بالمساواة بين الجنسين مساواة كاملة هو شىء مبهم وتفسيره غريب، بداية نتساءل هل تعنى المساواة بين النوعين أن يكونا نوعًا واحدًا أو جنسًا واحدًا؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا معناه «المثلية»! بالطبع لا يقصد أحد هذا المفهوم، وهذا يدل على أن مطالب الجمعيات النسائية تتعارض مع بعضها؛ يُطالبن ــ على سبيل المثال ــ بأن يكون للرجل زوجة واحدة مثل المرأة، وهن بذلك تتجاهلن أن نوعين من جنس واحد يعنى كيانين مختلفين جسديًا ونفسيًا، فى الشكل والتكوين، وبالتالى حقوق وواجبات مختلفة لكل نوع، وليس معنى ذلك أن أحدهما أفضل من الثانى، ولكن كلاهما مكمل للآخر، بشرط الاحتفاظ بطبيعته المخلوق عليها دون تشويهها أو تحويرها.
تسمح طبيعة الرجل بالتعدد، وقد هيأه الخالق لذلك فسيولوجيًا وبيولوجيًا وسيكولوجيًا، وذلك لأغراض اجتماعية لا تتغير مع تغير الأزمان، فى الحروب وأزمات العنوسة وكثرة عدد المطلقات وعدد الإناث الذى يفوق دائمًا عدد الذكور فى أغلب المجتمعات، أما المرأة فطبيعتها لا تقبل التعدد، فهى المقدس مثل الأرض، والرجل هو المتغير مثل الفلاح الذى يحمل فأسه ويبذر فى أكثر من قطعة أرض بذوره.
إذن لا حياة دون الأرض والفلاح، فالتكامل هو التفسير الصحيح للعلاقة بين الرجل والمرأة، وفى غير ذلك ينشأ الصراع بينهما، وهذا ما لا نود حدوثه، لأنه ضد الوصف الإلهى: «وَمِنْ آيَٰتِهِٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً..»، تطالب الجمعيات النسائية بوضع قيود صارمة على الزواج الثانى، وأن يكون تحقيق هذا الغرض بأمر من القاضى، وهذا من شأنه أن يحول القضاء إلى محاكم تفتيش، لأن الزواج متعلق ببواطن النفوس والقلوب! وفضلًا عن أن هذا يناقض الشرع، ويخالف تاريخ البشرية منذ أن خلقها الله لأن كل الأنبياء والرسل عددوا الزوجات باستثناء المسيح عليه السلام ــ باعتباره حالة استثنائية ــ كما أنه رُفع للسماء وهو فى الثلاثين من عمره، ومن قبله النبى يحيى عليه السلام الذى كان «حَصورًا»: «أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ».
كان التعدد فى سابق الأزمان بلا حدود، إلا أن الإسلام قد وضع حدًا أقصى له: أربع زوجات فقط، وهذا يدل على ميل الإسلام للتحديد، كما أن التعدد ليس إجباريًا، ولكن لا نستطيع تحريمه، وشرطه الأساسى ــ مثل الزواج الأول ــ قدرة الرجل المادية، سواء الأول أو الرابع، فعن النبى ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ (...)»، إذًا شرط الزواج من واحدة أو أكثر هو العدل المادى بينهن، وليس العدل النفسى، كما يدعى البعض، هكذا يقول الله سبحانه: «وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ..»، وهذا يتجاوب مع المنطق ومع الطبيعة البشرية لأن العدل المطلق صفة إلاهية!
• • •
نحن لا ندعو أبدًا للتعدد ــ كما سبق القول ــ ونطالب بتمكين المرأة من حقوقها التى حُرمت منها طويلًا، ولكن فى نفس الوقت لسنا مع شيطنة الرجل كما كانت المرأة مُشيطنة سابقًا، ولكن مع التوازن الذى يسمح لكل طرف بالحصول على حقوقه دون توغل أحدهما على الآخر؛ القَيّد على الرجل من الزواج الثانى ــ إذا ارتأى ضرورة لذلك ــ سيضر بالمرأة دون الرجل، ومن أهم أسباب ضررها: أن الرجل يتزوج من امرأة، وليس من كيان آخر، فهناك امرأة مستفيدة، سواء أرملة أو مطلقة أو ممن فاتهن قطار الزواج، وعدم إتمام الزواج من الثانية هو ضرر لها، وهدم لتقاليد ريفية متفق عليها عندما تتزوج أرملة من عم أولادها (المتزوج) لتربية أطفال أخيه.
إن القيد على الزواج الرسمى من الثانية سيدفع الطرفان إما أن يقيما علاقة محرمة، أو أن يتزوجا عُرفيًا، وهنا يقع الضرر على المرأة أيضًا! وقد عرض فيلم «كيدهن عظيم» (إخراج حسن الإمام 1983، وبطولة فريد شوقى وجميل راتب وتحية كاريوكا وعفاف شعيب...) للأضرار الكارثية للزواج العرفى، وفيه كادت سماسم ــ ثمرة زواج عُرفى بين عطاطة ولطفى ــ أن تفقد نسبها، وعليه رفض أبو العطوف (أبو عريسها) زواج ابنه منها، فتلجأ سماسم ــ لتثبت نسبها ــ لحيلة ادعاء حبها لجلال ابن لطفى، فيضطر الأب لطفى إلى كشف الحقيقة، والاعتراف ببنوة سماسم ليمنع زواج «المحارم» لابنته سماسم من أخيها جلال!
وإذا ألزمنا الرجل بالحصول على إذن من القاضى للسماح بالزواج الثانى، هذا سيكون أيضًا ضررًا قاسيًا بالزوجة الأولى، لأنه سيبحث عن سبب قوى يقنع به القاضى بضرورة الزواج الثانى، كأن يقول إن زوجته عاقر، أو يدعى ــ بالحق أو بالباطل ــ أنها مريضة ولا تستطيع تلبية احتياجاته الزوجية، فيحصل الرجل على صك رسمى يُعيب زوجته الأولى!.
أما عن ضرر الزوجة الأولى، فهو لم يُذكر إلا فى حالة واحدة: منع الجمع بين الأختين فى آية التحريم: «حُرِّمت عليكم أمهاتكم (...) وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ(...)»، فالله سبحانه لا يشرع شيئًا فيه ضرر لعباده، والضرر المزعوم للزوجة الأولى لم يكن موجودًا فى السابق، وهو نتاج ثقافة غربية غزت عالمنا الشرقى المتمسك بالتكافل الاجتماعى، ونبذ الأنانية والدعوة للحب والتعاون، هكذا كانت تعيش الأسرة المصرية فى الماضى القريب: الأزواج وأبنائهما وأحفادهما فى بيت واحد!
تُجَرِّم المجتمعات الغربية التعدد لأنها تبيح بدائل أخرى نرفضها رفضًا باتًا، فهم يصرحون ببيوت البغاء، ويفرضون عليها الرعاية الصحية والحصانة القانونية، بل ويحصلون منها الضرائب؛ والمفارقة الغريبة أن الغرب لا يُدين علاقات المخادنة والصداقة بين الجنسين، ولكنه يُدين التعدد! وهل الدولة العربية الوحيدة التى منعت التعدد انصلحت أحوال المرأة فيها؟
• • •
وفى سياق تعديل قانون الأحوال الشخصية، نرى أن مشكلة رؤية أطفال المطلقين ونفقاتهم لابد من الربط بينهما، واعتبار «مصلحة الطفل» الحاكم الأساسى فى تنظيم تشريع جديد، علمًا بأن ما ينطبق على أبناء المطلقين ينطبق بالمثل على الأطفال يتامى الأم، ولمزيد من التفصيلات يمكن الرجوع لمقالى: «عن قانون الأسرة والطلاق الغيابى» (15 مايو 2018).
كما يجب التنبيه على أن كثرة الشروط لإتمام الزواج يُلقى بالهواجس، وعدم الثقة بين الطرفين، مثل قائمة المنقولات التى لا نجد لها مثيلا عند الشعوب الأخرى، كما أن تعدد التشريعات من أجل تنظيم العلاقة الزوجية سيأتى بعكس ما هو مراد، فالزواج علاقة إنسانية بحتة تحكمها الأخلاق السوية والتربية الفاضلة لأبنائنا، نجده ضمن تعليم متميز وإعلام هادف، فتدخل القوانين بتفصيلات كثيرة ــ لا داعى منها فى أمور تسير بطبيعتها على مر العصور ــ تفسد أى علاقة بين أى طرفين.
ونذكر ــ على سبيل المثال ــ أنه طالما تستطيع الزوجة طلب «الخلع» دون شروط فما الداعى من إبلاغها برغبة زوجها بالزواج الثانى؟ فهذا من شأنه أن يضعها فى موقف محرج، إما أن تقبل هذا الوضع وتشعر بالمهانة، أو أن تضطر لرفع دعوى «خُلع» بسبب هذا الإعلان، فالمحصلة واحدة سواء بالإعلان أو بغيره، بينما كثير من النساء تعلمن بزواج زوجها عليها، وتخفى علمها بذلك لتسير حياتها دون اضطرابات، وفى أغلب الأحوال يعود الزوج لزوجته الأولى وأولاده نادما وطائعًا!
أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) ــ جامعة الأزهر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved