سوريا الجديدة تُكتب بالدم.. لا بالحبر
طارق فريد زيدان
آخر تحديث:
الأحد 10 أغسطس 2025 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
فى الميثولوجيا الإغريقية كان «يانوس» هو «إله البوابات»، حارس المفترقات الكبرى، ينظر إلى الماضى والمستقبل معًا من دون أن ينتمى إلى أىٍّ منهما. لم يكن إلهًا للحرب أو للسلام، لكنه لم يكن غريبًا عن الاثنين معًا. كان صاحب الكلمة الفصل عند التحوّل من عهد إلى عهد، ومن نظام إلى آخر. وكما يقول الكاتب السورى عماد فوزى شعيبى: «لمنطقتنا بوابة شبيهة بـ يانوس اسمها بلاد الشام».
بلاد الشام، التى سالت ــ وما تزال ــ دماؤها منذ قرن ونصف القرن، لم تعد جغرافيا جريحة فقط، بل هى المعبر الضرورى نحو شكل الشرق الأوسط الآتى. من يدخل؟ من يخرج؟ من يتحكّم بالممر؟
غير أن سوريا لا تصنع النظام القادم وحدها. صحيح أنها الشرط الذى لا يقوم نظام إقليمى من دونه، لكنها محكومة ــ حسب علم الأساطير ــ بالعبور من السلم إلى الحرب والعكس صحيح، ومن الازدهار إلى الفوضى والعكس صحيح.
فى سوريا نادرًا ما تجد صراعًا بوجهة واحدة، ولا حربًا واحدة، ولا خصمًا ثابتًا. هكذا يقول لنا التاريخ، وهذا ما يشى به الحاضر. منذ العام 2011 والأرض السورية تتحوّل من مسرح لثورة شعبية إلى ساحة لاشتباك معقّد متعدد الأبعاد: صراع على سوريا وصراع فى سوريا، صراع داخل الطائفة، صراع بين الطوائف، صراع على الطوائف، صراع بين القوميات، صراع حول الموقع الإقليمى، صراع بين أهل الإقليم على سوريا التى يريدون، وصراع دولى يبدأ من المياه الدافئة ولا ينتهى فى الصحارى الباردة. كلما استعرت النار الطائفية ابتعد هدف الوحدة السورية، ليتحوّل الهدف إلى إعادة تشكيل سوريا نظامًا وجغرافيا وسردية. واليوم، بعد أكثر من عقد ونصف على النزف، تتكرّس فرضية أن الفوضى هى الممر الإلزامى للوصول إلى نظام سوريا الجديد، ما يعنى أن سوريا الموقع باقية بقدرها، وسوريا الناس باقية بأقدارهم، وسوريا الجغرافية باقية بقوة الطبيعة والآلهة، بينما سوريا النظام تُكتب بالفوضى.
• • •
الصراع الطائفى فى سوريا ليس اختراعًا جديدًا، بل له جذور ممتدة إلى ما قبل حقبة الاستعمار الفرنسى. الفارق أنه منذ الانتداب الفرنسى حافظت سوريا على توازنها الطائفى الهش من خلال دولة مركزية مؤسساتية أمنية مترامية الأطراف، لكن الحرب حطّمت هذا التوازن وحوّلت الهويات الطائفية من وجوه صامتة إلى أدوات عنف مستطير. كل طائفة تبنّت سردية بقاء مختلفة؛ العلويون يخشون أن يكون سقوط النظام نهاية وجودهم، فتُمزّقوا بين عائلات أمن ضد عائلات مال، ومناطق جبلية ضد أخرى شاطئية، وأبناء المؤسسة ضد الطامحين.
أما المسيحيون فقد رأوا فى المعارضة تهديدًا يشبه ما حدث لمسيحيى العراق. الدروز اختاروا الحياد التكتيكى. أما المسلمون السنة ــ وبرغم كثرتهم ــ فتفرّقوا بين مرجعيات ودول وخطابات، بين من أراد ثورة مدنية ومن حمل السلاح تحت شعارات دينية، بين المدن والريف، بين الإخوان والسلفيين، والمقيمين واللاجئين والمنفيين. وكأن الوطن السورى تفكّك إلى جزر طائفية منفصلة لا يربطها إلا الموقع على الخريطة.
الطوائف لم تكن ضحايا فقط، بل أيضًا أدوات فى لعبة دولية كبرى. هذا الصراع على الطوائف، لا من أجلها، حوّل أبناءها إلى أوراق فى بازار النفوذ، ناهيك عن عبء إدارة التناقضات الاستراتيجية التى طغت على سياسات الدولة المركزية وانعكست على الطوائف لا لأجلها. كردّ فعل على ذلك، ومدفوعًا بشخصية النظام السابق القمعية والدموية، تحوّل العنف إلى ثقافة حاضرة فى كل مدينة وقرية وطائفة ومؤسسة وعشيرة وعائلة، وتم تدمير الثقة الوطنية بين أبناء سوريا.
تحوّلت الطوائف إلى كيانات منفصلة، وأصبحت موضوعًا للمنافسة لا طرفًا فى الوطن. وهنا ظهرت مرحلة الصراع على الطوائف من قبل قوى خارجية ترى فى كل طائفة ورقة فى لعبة إقليمية كبرى؛ إيران احتضنت العلويين وبعض الشبكات الشيعية، تركيا ركّزت على المعارضة السنية المرتبطة بها، الولايات المتحدة استخدمت الورقة الكردية لتثبيت نفوذها، إسرائيل تعاملت مع الدروز والأقليات الحدودية كخط تماس، أما روسيا فدعمت بقايا الدولة السورية العميقة حماية لنفوذها ووجودها العسكرى.
• • •
اليوم، الرهان الأكبر ليس فقط على من يحكم دمشق، بل على ما سيخرج من بوابة دمشق نحو الإقليم. منذ الحرب أصبحت سوريا مسرحًا لإعادة توزيع النفوذ بين إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة. سوريا كموقع ليست دولة عادية؛ قد تكون نعمة فى الجغرافيا لكنها نقمة فى الجيوبوليتيك. من هنا، فإن مصيرها لا يُرسَم فى دمشق وحدها، بل فى غرف القرار الإقليمى والدولى. القول بأن سوريا الموقع قدر، يعنى أن هذه البلاد ستبقى موضع نزاع مرير وطويل، ولن تنجو من هذا القدر إلا بتحقيق معادلة صعبة جدًّا: بناء دولة قوية موحّدة فى قلب الفوضى.
لم تعد الفوضى شيئًا يمكن تجاوزه، بل لربما أصبحت الوسيلة الأساسية لإنتاج النظام الجديد. كل دم يُسفك، وكل تهجير، وكل تغيير ديموغرافى، وكل معبر حدودى تتم السيطرة عليه، هو حجر أساس فى بناء مرحلة ما بعد الحرب. هذه المقاربة تستطيع خلق توازن سلبى فى المنطقة؛ استقرار هش لكنه قابل لإدارة الموقع والمرحلة. ومع الوقت، يتم ترميم الدولة قطعة قطعة، طوبة طوبة، عبر إعادة تدوير النخب وخلق شبكات اقتصادية عابرة للطوائف.
النقطة الأخطر فى المشهد كله هى أن النظام القادم فى سوريا لا يولد من صناديق الاقتراع أو عبر الاستفتاء الشعبى، ولا من موائد المصالحة، بل على الأرجح من ركام الحرب. كل طرف يسعى إلى فرض نظامه عبر السيطرة لا عبر الشراكة، والفوضى بدل أن تكون مرحلة انتقالية باتت أداة إنتاج النظام المقبل. وهذا ما يجعل كل الدماء التى تُسفك اليوم ليست عبثية فى نظر اللاعبين، بل ضرورية لتمهيد الطريق نحو نظام ما بعد الحرب. وهنا تصبح الجريمة مؤسسة من مؤسسات المستقبل، ويُعاد تعريف الوطنية كوظيفة لا كقيمة.
سوريا التى عرفناها لم تعد موجودة، وما نشهده الآن ليس دولة ثابتة موحّدة بل توازنات غير ثابتة. الخليج يبادر دفاعًا عن سوريا الموحدة، والغرب مرتبك بين أمريكا التى تريد دولة مركزية واحدة يمكنها استثمار موقعها ومواردها، وبين أوروبا التى لا تقارب أى أمر إلا من زاوية مصالحها الضيقة، فتتقاطَع مصلحتها مع دعاة وحدة سوريا مخافة التهجير والترانسفير.