تحدثنا عن الدكتور محمد خليل عبد الخالق فى مقال سابق أثناء حديثنا عن التفكير فى الصندوق و خارجه ولكن هذا الحديث المقتضب لا يوفى هذا العالم الفريد حقه فآثرنا فى هذا المقال أن نتكلم عنه باستفاضة أكثر.
سنلاحظ من حياة الدكتور عبد الخالق نفس الملاحظة التى نجدها عند علماء الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين فى مصر (جيل الرواد) و هى الإلتحام الشديد بمشاكل الوطن و عدم الإكتفاء بالجلوس فى المعامل فى برج عاجى، الجلوس فى برج عاجى يسميه بعض الناس بالترف العلمى و لكنى ضد هذه التسمية لأن العلم ليس بترف و أى إكتشاف علمى مفيد إن لم يكن عاجلاً فآجلاً، لكن الجلوس فى برج عاجى يستنفذ طاقة و موارد لنتيجة قد تكون آجلة و هذا قد لا تطيقه الدولة النامية أو قليلة الموارد، لهذا نرى أن كثير من العلماء الذين تحدثنا عنهم لا يكتفون بالأبحاث فقط و لكن يشتركون فى إنشاء معاهد أو مؤسسات أو جمعيات تساعد البلاد أو يشتركون في إدارة مؤسسات علمية بل إن أبحاثهم نفسها تكون أغلبها موجهة لخدمة البلاد، لذلك يجب أن نفرق بين العلماء في الدول الغنية و الدول النامية من حيث نوعية الأنشطة و إن كنا لا ننكر أن كلاهما له تأثيره المهم.
كان من المهم أن نذكر هذا الإختلاف حتى لا يتسائل أحد لماذا يهدر العلماء الذين ذكرناهم و سنذكرهم بعض وقتهم في أعمال إدارية أو غير علمية بدلاً من قضاء كل وقتهم في البحث العلمى فقط ، فالمجتمع العلمى يحتاج باحثين و إداريين و مدرسين إلخ لذلك في الدول محدودة الموارد يجب على العالم القيام بأكثر من دور، العلماء في الدول النامية عليهم أعباء أكثر بكثير من العلماء في الدول المتقدمة فإن عليهم العمل في بيئة قليلة الموارد و القيام بعدة أدوار و في نفس الوقت القيام بأبحاثم العلمية ... فلهم كل التحية!
نعود بعد هذا الاستطراد إلى عالمنا اليوم الدكتورمحمد خليل غبد الخالق عبقرى طب المناطق الحارة، ولد الدكتور في مايو من العام 1895 و تخرج في طب القصر العينى عام 1917 و كان الأول على دفعته بفارق شاسع جداً عن الثانى لدرجة أن العدد الأول من المجلة الطبية المصرية نوهت عن ذلك الإنجاز المبكر و الذى كان ينبئ بمستقبل زاهر.
بعد تخرجه عُين بطب القصر العينى كطبيب إمتياز ثم أوفدته الحكومة إلى لندن لدراسة طب المناطق الحارة في العام 1918 و هناك تتلمذ على يد العالم الكبير السير باتريك مانسون و الذى يعتبر مؤسس طب المناطق الحارة.
في أثناء هذه البعثة كُلف الدكتور عبد الخالق بالعمل في لجنة دراسة الإنكلستوما في مقاطعة كورنال جنوب غرب إنجلترا كما أُرسل لدراسة داء الفيل في غيانا البريطانية على الساحل الشمالى لأمريكا الجنوبية و هذه كانت بداية عظيمة له للتدريب على القيام بعدة أدوار: البحث العلمى و العمل الميدانى.
بعد عودته إلى مصر عُين الدكتور وكيلًا لقسم الأمراض المتوطنة بمعامل وزارة الصحة بالإضافة إلى تدريس علم الطفيليات بمدرسة الطب كما كان يقوم بالتدريس في كلية الطب البيطرى و كلية العلوم!
لم يكتف الدكتور عبد الخالق بكل ذلك بل أسس في العام 1931 معهد و مستشفى فؤاد الأول لطب المناطق الحارة و كان يعمل في هذا المعمل بدون أجر!
لم تنته قائمة أعمال الدكتور عبد الخالق ففي العام 1939 عين مراقبًا عامًا لمصلحة الأمراض المتوطنة بوزارة الصحة و كانت من أهم أعماله في هذا المنصب هو تنظيم حملة كبيرة لمكافحة بعوضة الغامبيا التي سببت وباءً هائلًا في مصر.
إنجازات الدكتور العلمية لا تقل إبهاراً عن إنجازاته العملية فله ما يربو على المائتين من الأبحاث العلمية وإبتكرعقاراً لعلاج البلهاريسيا أنتجته شركة باير الألمانية و كان يسمى عقار الفؤادين (Fouadin) تكريماً لملك مصر آنذاك فؤاد الأول، و إكتشف الدكتور نحو ثلاثين طفيلاً سميت عشرة منها على إسمه.
الدكتور عبد الخالق كان له أيضاً إهتماماً كبيراً بتاريخ الطب و قد ذكرنا في مقال سابق أهمية دراسة تاريخ العلوم، لننظر ماذا كتب طبيبنا العبقرى في مقال له في مجلة الرسالة:
"... قد كان لي الشرف في عام 1921 أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب، و تبين لي أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه اليوم بالإنكلستوما، و قد أعاد دوبيني اكتشافها بإيطاليا عام 1838 أى بعد اكتشاف ابن سينا لها بتسعمائة سنة تقريباً، و لقد أخد جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة روكلفر الأمريكية التي تعني بكل ما كتب عن هذا المرض... و لذلك كتبت هذا ليطّلع عليه الناس و يضيفوا إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو أكثر الأمراض انتشاراً في العالم الآن"
في حديثنا عن العلماء دائماً ما أضع الجوائز التي حصلوا عليها في ذيل الإنجازات لأن العالم الحق يجب ألا يعمل من أجل الجوائز و هناك الكثير من الجوائز مسيسة أو تتحكم فيها عوامل أخرى كثيرة بجانب الإنجاز العلمى، و لكن على كل حال حاز الدكتور محمد خليل عبد الخالق على عدة جوائز منها وسام جوقة الشرف الفرنسي و نيشان الاستحقاق اللبناني و نيشان الاستحقاق السورى و نيشان الرافدين العراقى.
ويجدر بنا أن نذكر أن للدكتور أخ هو الدكتور أحمد خليل عبد الخالق من رواد طب الأطفال في مصر.
رحم الله الدكتور محمد خليل عبد الخالق من أبناء قرية السالمية مركز فوه بمحافظة كفر الشيخ و الذى وافته المنية عام 1950.