أعلم أن الأمر حساس وعليه الكثير من الخطوط الحمراء، سواء بسبب القوانين أو الضغوط أو الهستيريا المجتمعية والأمنية التى ضربت البلاد منذ ثورة يناير، وبشكل أكبر منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسى عن حكم مصر، وما تلاه من مواجهات عنيفة وعمليات إرهابية كنا ولا نزال ندفع ثمنها.
ما شجعنى على الكتابة هو ذلك الزخم الذى حظيت به صفحة الرأى بجريدة «الشروق» خلال الأسبوع الماضى وخصوصا السجال بين الأستاذ العزيز فهمى هويدى والأستاذ العزيز عماد الدين حسين رئيس تحرير «الشروق»، حول حرية الرأى ودقة المعلومات والمساءلة القانونية فى موضع الحديث عن المؤسسة العسكرية المصرية وأنشطتها المختلفة.
كان الصديق العزيز الأستاذ حسام السكرى كتب أيضا فى مساحة متقاربة عن حقيقة النشاط الاقتصادى للجيش الأمريكى، كما قام الأستاذ الدكتور مصطفى كامل السيد بالحديث فى صلب الموضوع عن القوات المسلحة وبناء الدولة المصرية. دون مجاملات للمساحة التى أكتب بها، فوجود كل هذا السجال والجدل فى أسبوع واحد حول موضوع بهذا القدر من الحساسية هو من الأمور القليلة التى تبعث على التفاؤل فى ظل هذه الظروف الصعبة، وخصوصا لو قمنا بمقارنة محتوى هذه السجالات وكثافتها فى أسبوع واحد بمحتوى الكلام عن نفس الموضوع فى صحف أخرى مصرية شهيرة.
لا تهدف السطور القادمة إلى حسم هذه الجدالات، ولكنها تهدف إلى إضافة متواضعة لها إيمانا بأن الحديث عن المواضيع الحساسة بشكل علنى وفى صحف مصرية هو من الأمور المحمودة والتى لا مناص منها لو أردنا ــ ولو لمرة واحدة ــ أن نقيم علاقات طبيعية دستورية بين مؤسساتنا الوطنية المختلفة وبيننا نحن الشعب بمختلف طوائفه وفئاته.
***
بداية الحساسية ربما ترجع إلى لحظة تأسيس الجمهورية والسنوات القليلة التى تلتها، فعلى خلفية صراع واضح حول السلطة بين حركة الضباط الأحرار بقيادة فعلية لعبدالناصر وبين جماعة الإخوان المسلمين، وهو الصراع الذى تسبب فى وجود سرديتين لدور المؤسسة العسكرية فى مصر، تقول الأولى بأن الجيش قاوم الاستعمار والظلم والاستبداد وقام بتحديث مصر، وبالتالى فله كل الحق ليس فقط فى القيام بالأدوار الدفاعية التقليدية، ولكن فى توسيع أنشطته لتشمل السياسة والاقتصاد والثقافة لأن الجيش هو الدولة والدولة هى الجيش. فى مقابل هذه السردية القومية تأتى سردية أخرى تقول إن الجيش استولى على السلطة وأنه السبب فى تراجع مصر على مؤشرات التنمية والتقدم، يعزز الفريق الثانى سرديته بهزيمة ١٩٦٧ والتى يرونها تؤكد أن تفرغ قيادات الجيش لأمور غير دفاعية ورَّط البلد فى الهزيمة، بينما يرى أصحاب السردية الأولى أن هزيمة ١٩٦٧ عارضة وأن الجيش استرد كرامته وكرامة كل مصرى بالانتصار فى ١٩٧٣ ثم استعادة الأرض كاملة بعد ذلك بالمفاوضات.
تمر تلك الحساسية بمحطة جديدة فى نهاية السبعينيات حيث معاهدة الصلح مع إسرائيل وتحول الدفة المصرية من الاتحاد السوفيتى إلى الولايات المتحدة، يرى أصحاب السردية الأولى أن الجيش وقادته ومنهم الرئيس السادات قد استعادوا الأرض بالحرب ثم بالسلام وذلك بتحقيق أقصى الممكن فى ظل ظروف دولية متغيرة وعدم توازن القوى بين إسرائيل والعرب، وأنه يكون بذلك قد حقق الجيش أسمى أهدافه بالحفاظ على الأرض وإقامة سيادة مصرية كاملة غير منقوصة على كل شبر من أراضيها، بينما يرد أصحاب السردية الثانية والتى انضم إليها الآن تيارات يسارية وقومية متنوعة بعد أن كانت شبه مقصورة على الإسلاميين سابقا، بأن السيادة عادت منقوصة بنص الاتفاقية مع الجانب الإسرائيلى عن طريق تحديد عدد وعدة القوات المسموح لها بالتواجد فى المناطق المختلفة ( أ، ب، ج)، فضلا عن أن الاتفاقية قد أخرجت القوات المسلحة المصرية من معادلة القوى العسكرية والسياسية فى المنطقة عن طريق تحييد المؤسسة وتغيير عقيدتها ودفعها إلى الانخراط فى أنشطة سياسية واقتصادية وترك الجبهة، بينما يرد أصحاب السردية الأولى بأن الجيش لم تتغير عقديته فلا يزال يؤمن بقدسية الجمهورية أولا، والسيادة الكاملة على الأراضى ثانيا، ومازال يرى أن عدوه الأول هو إسرائيل ثالثا، ولكنها ظروف توازنات القوى هى التى فرضت على الجيش التخفف من أثمان «قومية عروبية» والاكتفاء بدفع أثمان «قومية مصرية».
كانت المحطة الثالثة لذلك الجدل هو انهيار الكتلة الشرقية وانتصار الولايات المتحدة والمعسكر الغربى وهو ما أعطى زخما قويا لأصحاب السردية الأولى لسببين، الأول هو التأكيد على بعد نظر الرئيس السادات بالرهان المبكر على المعسكر الغربى لا الشرقى، والثانى هو أن نفس قوى «الممانعة العربية» التى لطالما زايدت على مصر ومواقفها هى نفسها التى دخلت فى مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل لاحقا، بينما يرى أصحاب السردية الثانية أن عملية السلام المزعومة قد انهارت برمتها مع اندلاع الانتفاضة الثانية التى أثبتت خداع الإسرائيليين ووهم عملية السلام المزعومة، لكن يرد أصحاب السردية الأولى قائلين، وماذا خسرت مصر فى كل ذلك؟
كانت المحطة الرابعة الرئيسية للجدل هو اندلاع الثورات العربية وعزل الرئيس الأسبق مبارك والذى ــ وللوهلة الأولى ــ أعطى انطباعين، الأول أن المؤسسة العسكرية ولاؤها الأول والأخير للشعب لا لهذه القيادة أو تلك حتى لو كانت من القوات المسلحة مادام الشعب قد رفضها، والثانى أن القوات المسلحة هى «الحامى» أو«الحكم» بين الفاعلين السياسيين المختلفين.
للمرة الأولى منذ ١٩٥٣ تقارب الفاعلون الرئيسيون أصحاب السرديتين سابقتى الذكر، بينما ظهرت سردية ثالثة من تيارات ليبرالية ويسارية شبابية فى معظمها تتهم قيادات المؤسسة العسكرية بالتقارب مع الإسلاميين على حساب السلطة مستشهدين بظروف تشكيل لجنة وضع الإعلان الدستورى (مارس ٢٠١١)، كان هذا هو السياق الذى أنتج شعار «يسقط حكم العسكر» بعد أن كان الشعار هو «الجيش والشعب إيد واحدة»، رفض الإسلاميون الشعار الأول تأكيدا على تقارب غير مسبوق فى المواقف أو المصالح مع المؤسسة العسكرية، لدرجة أن تعيين وزير دفاع جديد وترقيته إلى منصب فريق تم اعتباره من قبل الإسلاميين انتصارا لهم ووضع المؤسسة العسكرية «فى جيبهم»، بينا أثار ذلك قلق وتشكيك التيارات الثورية من غير الإسلاميين للدرجة التى تم فيها اتهام السيسى بأنه «إخوانى» وأن الصفقة قد تمت.
كانت المحطة الخامسة والآخيرة ــ حتى الآن. هى فى أحداث الثلاثين من يونيو وحتى الثالث من يوليو حيث تم عزل الرئيس مرسى ببيان من المؤسسة العسكرية وعلى رأسها وزير الدفاع فى حضور ومباركة رءوس التيار المدنى والسلفى والأزهر والكنيسة وممثلين عن بعض التيارات الثورية وهو ما أعاد الصراع بين السرديتين السابقتين إلى الواجهة مرة أخرى ولكن هذه المرة بشكل أكثر حدة من خلال اتهامات متبادلة بـ«العمالة» و«الخيانة» على خلفية دماء سائلة على مسرح أحداث الوطن من كل الأطراف.
هل يمكن إعادة التقارب بين السرديتين مرة أخرى؟
أرى أن محاولة بذل أى جهد فى هذا الاتجاه ستكون من قبي
ل تضييع الوقت والجهد فيما لا يفيد، لأن التقارب بين السرديتين لن يكون إلا على هامش صفقات لا نريدها ولا نرجوها، ولكن يجب بذل الجهد فى ثلاثة اتجاهات محددة، أتمنى أن تتوقف الحساسيات غير المبررة فى نقاشها:
الاتجاه الأول هو فى صنع سردية جديدة قومية/ مصرية/ ديمقراطية، تتوقف عن الاستجابة لابتزازت بعض الأطراف العربية/ الإقليمية لدفع الجيش المصرى وحده لتحمل أثمان قومية عروبية أو إسلامية فى حين أن هذه الأطراف نفسها لا تجد غضاضة أبدا فى التعاون مع الأطراف «العدوة» باتفاقيات معلنة ومعروفة للجميع لكن أصحاب بعض الهوى يغضون الطرف عنها. سردية ترفض تخوين الجيش المصرى كثابت وطنى مهم لا غنى عنه لإقامة الدولة المصرية الحديثة، سردية ترفض مجرد التفكير فى إقامة أى كيانات عسكرية أو مسلحة تحت أى حجة أو ظرف، فجيش مصر يجب أن يبقى موحدا بغض النظر عن أى حجج خائبة تقال هنا أو هناك.
الاتجاه الثانى هو بذل الجهد للتأكيد على التزام الجيش المصرى والدولة المصرية بحقوق الشعب الفلسطينى سواء تلك المثبتة بالقانون الدولى وتتعلق بأراضى الفلسطينيين وحقهم فى العودة وإقامة دولة مستقلة لهم وعاصمتها القدس، أو تلك المرتبطة بحق الفلسطينيين العبور إلى الأراضى المصرية عبر معبر غزة مع عدم التورط أبدا فى منع الغذاء أو الدواء عن الشعب المحاصر فى غزة، فى مقابل التزام الجانب الفلسطينى بالقوانين المصرية وحق مصر فى «ضبط» الحدود والمعابر وإغلاق الأنفاق لأنها من بديهيات السيادة ويجب عدم التفريط فيها استجابة لابتزازات بلهاء هنا أو هناك، مع ضرورة الفصل بين الصراع الداخلى فى الدولة مع الإسلاميين وبين التعامل مع حركة حماس التى يجب أن تبقى ــ لاعتبارات كثيرة لا تتسع المساحة لذكرها ــ المنسق الرئيسى مع الجانب المصرى، وعدم التورط فى وصفها بالإرهاب لأنها تظل حركة مقاومة مشروعة حتى لو كانت هناك خلافات سياسية أو أيديولوجية معها.
الاتجاه الثالث، يجب أن ينصب فى إقامة علاقات متوازنة قائمة على التوازن والرقابة والفصل بين السلطات بما فيها سلطة المؤسسة العسكرية عن السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية والشعبية ورقابة هذه السلطات الأخيرة على أنشطة المؤسسة العسكرية بما يحفظ للأخيرة بعض الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية فى مقابل تمكين المدنيين من مفاصل الدولة كما هو معمول به فى كل التجارب الديمقراطية الناجحة ولهذا حديث آخر تفصيلى.
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة.
اقتباس
ما شجعنى على الكتابة هو ذلك الزخم الذى حظيت به صفحة الرأى بجريدة «الشروق» خلال الأسبوع الماضى وخصوصا السجال بين الأستاذ العزيز فهمى هويدى والأستاذ العزيز عماد الدين حسين رئيس تحرير «الشروق»، حول حرية الرأى ودقة المعلومات والمساءلة القانونية.