قصة النمو فى الهند
مواقع عالمية
آخر تحديث:
الأحد 10 سبتمبر 2023 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع Project Syndicate مقالا للكاتب أشوكا مودى، يقول فيه إنه على الرغم من استضافة الهند لقمة مجموعة العشرين هذا العام، وتحقيقها نموا سنويا مرتفعا يجعلها صاحبة الاقتصاد الأسرع فى العالم، فإنها تعانى من صراعات وتناقضات اقتصادية واجتماعية على نحو هائل... نعرض من المقال ما يلى:
خلف لوحات الإعلانات الضخمة فى دلهى التى تعلن عن قمة مجموعة العشرين هذا الشهر، تقبع أحياء فقيرة لم يعد بوسع سكانها كسب لقمة العيش. فقد هُـدِمَـت أكشاكهم ومتاجرهم على جانب الطريق، خشية أن تُـفـسِـد الصورة التى رعاها رئيس الوزراء ناريندرا مودى بعناية للهند الصاعدة.
كما تُـعـرَض إحصاءات الناتج المحلى الإجمالى كجزء من ممارسة «الدمغ والتجميل». فبفضل نمو سنوى بلغ 7.8% فى الربع الثانى من هذا العام، تبدو الهند الدولة صاحبة الاقتصاد الرئيسى الأسرع نموا فى العالم. ولكن مرة أخرى، خلف لوحات الإعلان تدور صراعات بشرية على نطاق هائل. فالنمو فى حقيقة الأمر منخفض، وفجوات التفاوت تزداد اتساعا، وتظل نُـدرة الوظائف حادة.
تتضمن لوحات الإعلانات المستلهمة من قمة مجموعة العشرين والتى تروج لأحدث أرقام الناتج المحلى الإجمالى سطرا غامضا حول «التناقضات». يمثل هذا التناقض فى التقارير، وهو تقليد حميد عادة، الفارق بين الدخل المحلى (المكتسب عن طريق إنتاج السلع والخدمات) والإنفاق (ما يدفعه المقيمون والأجانب عندما يشترون هذه السلع والخدمات). من حيث المبدأ، لابد أن يكون الإنفاق مساويا للدخل المكتسب، لأن المنتجين لا يمكنهم كسب الدخل إلا عندما يشترى آخرون إنتاجهم. ولكن فى الممارسة العملية، تختلف تقديرات الدخل والإنفاق فى الحسابات الوطنية فى كل مكان، لأنها تستند إلى بيانات غير كاملة.
عادة، لا يشكل هذا التناقض أهمية كبيرة عند حساب معدلات النمو، لأن الدخل والإنفاق، حتى لو اختلفا بعض الشىء، يبديان اتجاهات متماثلة. ولكن بين الحين والآخر، تتبع السلسلتان مسارين مختلفين تمام الاختلاف، ويترتب على هذا عواقب بالغة الأهمية فى ما يتصل بتقييم الأداء الاقتصادى.
• • •
يُـعَـد التقرير الأخير الصادر عن مكتب الإحصاء الوطنى الهندى مثالا واضحا على هذا. فهو يُـظـهِـر أنه فى حين ازداد الدخل من الإنتاج بمعدل سنوى بلغ 7.8% خلال الفترة من إبريل إلى يونيو، فقد ارتفع الإنفاق بنسبة 1.4% فقط. من الواضح أن كلا من المقياسين ينطوى على أخطاء عديدة. مع ذلك، يتعامل مكتب الإحصاء الوطنى مع الدخل الوطنى باعتباره الدخل الصحيح ويفترض (كما توحى ملاحظته عن «التناقض») أن الإنفاق يجب أن يكون مطابقا للدخل المكتسب. هذا انتهاك واضح لأفضل الممارسات الدولية. المغزى الأساسى من سطر التناقض هو الاعتراف بالخلل الإحصائى، وليس جعله يختفى. الواقع أن مكتب الإحصاء الوطنى يغطى على حقيقة الإنفاق الهزيل فى وقت حيث يتألم كثيرون من الهنود، فى حين يُـظـهِـر الأجانب شهية محدودة للسلع الهندية.
يتمثل النهج اللائق هنا فى الاعتراف بأن كلا من الدخل والإنفاق يشكل مُـحَـصِّـلة منقوصة للاقتصاد الكلى، ثم الجمع بينهما لتقييم حالة الاقتصاد. وعلى هذا فإن حكومات أستراليا وألمانيا والمملكة المتحدة تعمل على تعديل ناتجها المحلى الإجمالى المسجل باستخدام معلومات من كل من جانب الدخل وجانب الإنفاق.
علاوة على ذلك، فى حين تستخدم الولايات المتحدة الإنفاق كمقياس أساسى للأداء الاقتصادى (خلافا للدخل فى الهند)، يفسر مكتب التحليل الاقتصادى فى الولايات المتحدة الفارق الكبير غالبا بين الدخل والإنفاق من خلال تسجيل متوسط الاثنين كمقياس مركب. عندما نطبق طريقة مكتب التحليلات الاقتصادية على البيانات الهندية، ينخفض معدل النمو الأخير من العنوان الرئيسى 7.8% إلى 4.5% ــ وهو انخفاض ملحوظ من 13.1% خلال الفترة من إبريل إلى يونيو 2022، عندما أشعل انتعاش ما بعد كوفيدــ19 فى مستهل الأمر شرارة الموجة الحالية من المبالغة الدعائية فى الهند.
لم تصمد هذه الضجة قَـط فى مواجهة التحليل الأولى للبيانات، لكنها استمرت لأنها تخدم مصالح الـنُـخَـب الهندية والدولية. تفضل هذه النخب نسيان حقيقة مفادها أن معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى فى الهند كان 3.5% فى عام 2019، قبل أن يسجل انخفاضا حادا أثناء جائحة كوفيد، أو أنه تباطأ مرة أخرى إلى متوسط 3.5% منذ ذلك الحين، حتى بعد ارتداده الحاد إلى 13.1% فى الربع الثانى من العام المنصرم. إن البيانات الأخيرة لا تؤكد تباطؤ النمو فحسب، بل وتنبهنا أيضا إلى الأسباب الكامنة: اتساع فجوات التفاوت ونُـدرة الوظائف.
تنعكس أوجه التفاوت هذه فى المحتوى المستورد فى الإنفاق المحلى، والذى ارتفع من 22% قبل جائحة كوفيد إلى 26%. وبمساعدة سعر صرف مبالغ فى تقديره، يشترى الهنود الأثرياء السيارات السريعة، وساعات اليد الـمُـذَهَّـبة، وحقائب اليد من الماركات الفاخرة ــ غالبا فى نوبات من الانغماس فى التسوق فى زيوريخ، وميلانو، وسنغافورة ــ فى حين تكافح الغالبية العظمى من الهنود لشراء الضروريات.
تُـظـهِـر البيانات أيضا أسباب فشل الاقتصاد الهندى فى خلق الوظائف وفرص العمل، وخاصة تلك التى من شأنها أن تدعم مستوى معيشى كريم. بعيدا عن مجالات الإدارة العامة، كان نمو الدخل الأسرع على الإطلاق فى الربع الأخير (12.1%) فى قطاعى التمويل والعقارات. وهذه السمة السائدة فى التنمية الهندية بعد التحرير، والتى تعززت الآن بفعل «التكنولوجيا المالية»، لا تعمل إلا على توليد عدد ضئيل من الوظائف لصالح الهنود الأعلى تأهيلا. تشهد الإدارة العامة أيضا نموا قويا، لكن هذا أيضا لا يخلق سوى فرص عمل محدودة. وبين قطاعات النمو الأخرى، يعمل قطاع البناء (بمساعدة من حملة مشاريع البنية الأساسية بقيادة الحكومة) وقطاع الخدمات المتدنية (فى التجارة، والنقل، والفنادق) على خلق وظائف غير مستقرة ماليا فى الأغلب، الأمر الذى يجعل العمال قريبين للغاية من الانزلاق إلى ضائقة شديدة.
القطاع الذى لا يؤدى وظيفته حقا هو قطاع التصنيع، وهو المصدر الأساسى لتشغيل العمالة فى كل اقتصاد نام ناجح. فى أعقاب عقود من النمو المخيب للآمال، كان أداء التصنيع فى الهند بعد الجائحة ضعيفا بشكل خاص. ويعكس هذا عجز الهند المزمن عن المنافسة فى الأسواق الدولية على المنتجات الكثيفة العمالة ــ وهى المشكلة التى تفاقمت بسبب تباطؤ التجارة العالمية وضعف الطلب المحلى على المنتجات المصنعة، نظرا للتفاوت المروع فى الدخل.
• • •
تختار السلطات الهندية تجاهل الحقائق المزعجة حتى يتسنى لها استعراض الصور والأرقام الرئيسية التى تدعو إلى الإطراء ظاهريا وقت انعقاد قمة مجموعة العشرين. لكنها تمارس لعبة هازئة خطيرة. تفضح إحصاءات الحسابات الوطنية المراوِغة الرغبة فى التخلص من تباطؤ النمو، واتساع فجوات التفاوت، وتوقعات فرص العمل القاتمة، بمجرد التمنى. وتُـحـسِـن السلطات صنعا بأن تدرك المسار الذى وضعت الهند عليه ــ وتعيد النظر فيه.
النص الأصلى