دروس تاريخية في الوحدة والانفصال
محمد عبدالمنعم الشاذلي
آخر تحديث:
الأحد 10 سبتمبر 2023 - 6:45 م
بتوقيت القاهرة
فى يوم 28 من سبتمبر الحالى يكون قد مر 62 عاما على حدث جلل كان له أثر عميق على جيلى الذى بلغ اليوم من العمر عتيا.
فى يوم 28 سبتمبر 1961 أعلنت سوريا الانفصال عن الجمهورية العربية المتحدة التى أعلنت يوم 22 فبراير 1958 ومثلت انتصارا وأملا مضيئا وحلما انطلق بعد سقوط الدولة العثمانية وانطلاق القومية العربية من القمقم الذى ظلت حبيسة فيه منذ ساد الحكم العثمانى التركى على العرب. بدأ حلم الوحدة على يد منظرين مثاليين مثل ساطع الحصرى ثم حزب البعث الذى رفع شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، ثم جمال عبدالناصر الذى رفع بدوره شعار الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج.
إلا أن الوحدة ظلت حتى عام 1958 شعارا ونظرية، وتعثر أى تطبيق عملى لها. ولذلك كانت الفرحة بها عارمة كأول تطبيق للوحدة العربية بعد تشرذم الحلم الذى أطلقه الشريف حسين بمملكة عربية واحدة بعد أن أعلن ثورته على الحكم التركى مخدوعا بالوعد الذى تلقاه من خلال المندوب البريطانى، ماثيو ماكماهون، من خلال مراسلاته الشهيرة معه ثم اتضحت الخديعة والخيانة فى اتفاق سايكس بيكو، وفى وعد بلفور ثم وضوح الموقف العربى الهزيل الذى تمثل فى قبول فيصل الأول أن يزاح عن عرش سوريا تحت أسنة الجيش الفرنسى وأن ينصب على عرش العراق تحت أسنة رماح الجيش الإنجليزى. وبدلا من أن ينضوى ولدا الشريف حسين تحت علم دولة عربية موحدة، اختار عبدالله أن يجلس على عرش الأردن كما جلس شقيقه على عرش العراق. كانت صدمة الانفصال عارمة، فطالما قلنا إن ما يعوق الوحدة هو الاستعمار الذى يفرق بيننا وها نحن قد تحررنا من الاستعمار، ووضع الرئيس جمال عبدالناصر يده فى يد شكرى القوتلى الذى أطلقنا عليه لقب المواطن العربى الأول بعيدا عن الاستعمار ومؤامراته فماذا حدث؟! ولعل الأكثر إثارة للحزن والأسى هو كيفية معالجتنا لقضية الانفصال التى لا أبالغ أنها أصابت حلم الوحدة العربية فى مقتل، لم نخضع الوحدة والانفصال لدراسة وتحقيق جنائى أو سياسى أو تاريخى للوقوف على الأسباب.
اكتفينا بتأكيد مصر أنها مؤامرة رجعية إمبريالية صهيونية، وقول سوريا أن مصر سيطرت على سوريا وعاملتها معاملة دونية. لم نتعلم من الدرس لأننا لم نخضعه للدراسة وكانت النتيجة تعثر تجارب عديدة للوحدة العربية تراوحت بين اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وليبيا وسوريا عام 1972 ومجلس التعاون العربى بين مصر والعراق والأردن واليمن الشمالى عام 1989 والوحدة بين اليمن الشمالى والجنوبى التى تحققت ثم انفصلت بحرب دامية ثم عادت للتوحد، واتفاق الاتحاد المغاربى الذى لم يكتب له التحقق، وبرنامج التكامل بين مصر والسودان الذى خطى خطوات إيجابية ثم أجهض وفشل، ناهينا عن انفصال الجنوب عن السودان وشبه انفصال الأكراد فى العراق وانفصال فرقاء فلسطين بين غزة وضفة حتى قبل قيام الدولة، وأخيرا الاقتتال الدامى والمدمر الدائر فى السودان الذى بات يهدد وجود الدولة.
لم تقدم المستندات التاريخية التى تستعرض دوافع تجارب الوحدة وأسباب فشلها حتى فقدنا الإيمان بفكرة الوحدة، حتى بات من يتحدث عن الوحدة العربية ينظر له كمن يتحدث عن الغول والعنقاء والخل الوفى.
• • •
إذا كان هناك بقية لأمل الوحدة، فيجب علينا أن ندرس ليس فقط تجاربنا فى الوحدة والانفصال وأسباب نجاح تجارب وحدة بين بلاد كانت التحديات فيها أكبر بكثير من التجارب العربية ولعل المملكة المتحدة مثال قوى على ذلك، ففى عام 1707 اتحدت إنجلترا مع اسكتلندا رغم بحور الدم التى سالت بين الشعبين، وقد صور الفيلم البديع brave heart الذى قام ببطولته الممثل Mel Gibson والذى أوضح الفظائع التى ارتكبها الإنجليز فى حق الأسكتلنديين فى القرن الثالث عشر ثم انتفاضتين فى عام 1717 و1745 تم قمعهما بقسوة عارمة وحرم على الأسكتلنديين لمدة تقرب من المائة عام حمل السيوف أو ركوب الجياد أو ارتداء الزى الأسكتلندى التقليدى، وظلت المقاومة لإنجلترا فى أيرلندا مستعرة حتى حققت أيرلندا الجنوبية استقلالها فى عام 1921، وظلت أعمال العنف سائدة يقودها الجيش الجمهورى الأيرلندى فى أيرلندا الشمالية وكان أبرزها اغتيال اللورد مونتباتن بواسطة قنبلة زرعت فى زورقه فى عام 1979.
ثم لدينا تجربة الولايات المتحدة التى أصدرت إعلان الاستقلال Declaration of independence فى عام 1765 بواسطة ثلاث عشرة مستعمرة بريطانية، ثم دخلت فى حرب استقلال مريرة مع المستعمر توجت بالنصر فى يوم 4 يوليو 1776، ثم توسعت الدولة بانضمام ولايات أخرى وغزو أراضٍ جديدة وشرائها. واجهت الدولة تحديات كبيرة كان أكبرها حرب أهلية قتل فيها من الجنود الأمريكيون أكثر مما قتل فى الحرب العالمية وظلت أمراض كثيرة ترهق الدولة مثل الحقوق المدنية والعنصرية إلا أن الدولة صامدة لهذه التحديات.
لعل نموذج ألمانيا نموذج خاص يستدعى الاهتمام والتقدير، فلم تكن ألمانيا تاريخيا منذ عهد شارلمان والإمبراطورية الرومانية المقدسة دولة موحدة بل كانت تحت لواء الإمبراطورية مقسمة إلى سبعة كيانات مرتبطة برباط واهٍ فى مجلس يمثل فيه كل كيان بواسطة منتخبElector، وفى حقيقة الأمر كانت الصراعات بينهم عميقة ودموية فانقسموا بين كاثوليك وبروتستانت وسالت بينهم الدماء بحورا فى حرب الثلاثين عاما فى القرن الـ 17.. وفى عام 1871 تمكن المستشار البروسى بسمارك من توحيد ألمانيا عقب سلسلة من الانتصارات العسكرية على الدنمارك والنمسا وأخيرا على فرنسا.
منيت ألمانيا الموحدة بهزيمة فى الحرب العالمية الأولى وفرضت عليها معاهدة فرساى المهينة لكنها نهضت من الهزيمة لتدخل الحرب العالمية الثانية ومنيت بهزيمة أفدح وتحتل وتقسم بين الحلفاء وبين الاتحاد السوفيتى ولكن الشعب الألمانى نهض مرة أخرى من الرمال ليوحد بلده، ولعل من الملفت أن أنجيلا ميركل التى ولدت ونشأت فى ألمانيا الشرقية الشيوعية انتخبت لتكون مستشارة لألمانيا الموحدة العضوة فى حلف شمال الأطلنطى.
• • •
إيطاليا التى توحدت فى نفس سنة توحد ألمانيا 1871 ومثلها أيضا كانت مقسمة إلى سبعة كيانات منها كيان واحد فى سردينيا وبيدمونت تحت حكم عرش إيطالى، أما شمال البلاد فكان يخضع للنمسا والجنوب لأسبانيا والوسط لسلطة الباب، واحتاج الأمر أيضا إلى الثائر الوطنى غاريبالدى ليوحد البلاد بعد حروب دامية ورغم الخلافات بين الكيانات المختلفة فقد صمدت الوحدة الإيطالية أمام تحديات كثيرة منها حربان عالميتان وحتى لا تعطى الانطباع بأن العرب من دون باقى الشعوب هم من عجزوا عن تحقيق وحدتهم أو الحفاظ عليها. علينا أن ننظر إلى حال روسيا التى كونت إمبراطورية واسعة امتدت من شرق أوروبا عبر آسيا لتكون أكبر دولة فى العصر الحديث، كذلك ضمت قوميات وعرقيات وديانات عديدة، وتحملت هذه الدول الثورة البلشفية والحرب الأهلية والحرب العالمية الأولى والثانية وسنين من الحرب الباردة، ثم قضى عليها مثالية جورباتشوف ثم خيانة يلتسن وفساده. وإذا اتجهنا غربا نجد تجربة وحدوية وانفصالات فى أمريكا اللاتينية بعد أن استقلت بلادها من الاستعمار الأسبانى بعد حروب دامية فى عشرينيات القرن الـ 19 بقيادة أبطال التحرير سيمون بوليفار وفرانسيسكو سانتادور وخوسيه دى سان مارتين وبرناردو أوهيجنز وتكونت دولة كولومبيا العظمى Grand Colombia من كولومبيا واكوادور وفنزويلا وبيرو وبناما، ولكن سرعان ما دبت الخلافات بين القادة وانفصلت كل بلد لتكون جمهورية مستقلة.
• • •
أود فى النهاية أن أوكد أن الفرض من هذا المقال ليس تحليل مقومات الوحدة وأسباب نجاحها أو فشلها، فذلك قطعا أكبر من قدرتى وإمكاناتى كما أن المساحة المتاحة للمقال لا تكفى لذلك، ولكن غرضى هو حث الدولة والجهات المسئولة على إتاحة الوثائق والشهادات التى تمكن الأشخاص الباحثين والأكاديميين والسياسيين والإعلاميين من دراسة هذه الوثائق والخروج بدراسات تخدم قضية الوحدة التى طالما داعبت خيالنا وأملنا وخدمنا قضيتها بسيل من القصائد والأناشيد من وطنى حبيبى الوطن الأكبر إلى وحدة ما يغلبها غلاب، وبخلنا عليها بدراسة موضوعية جادة تساعدنا على التعامل معها.