ها أن الناس العاديين من أربعة وأربعين مجتمعًا عبر العالم كله، وفى مقدّمتهم الشابات والشباب، يقولون لقادة هذا العالم: سحقًا لقيم عالمكم الأخلاقية المنافقة ذات الوجهين التى فضحتها مأساة غزة، ولضمائركم التى تبلّدت وتقيّحت أمام جوع وعطش وعرى أطفال غزّة، ولالتزاماتكم الإنسانية التى تلعثمت أمام دعاية الآلة الصهيونية وأعوانها وانقلبت إلى خوف ورعب ومخاتلة للنفس أمام آلة الاعتداءات الجنسية والتعذيب فى السجون والدمار والموت الصهيونية فى فلسطين المحاصرة.
إنهم يأتون بابتسامات البطولة والأمل والسمو الروحى فوق أسطح سبعين سفينة ليفكّوا حصار غزة وليطعموا ما بقى من عظام وجلود أطفالها، فلعلّ وعسى أن يطهّروا هذا العالم قبل أن يحلّ به ما أصاب عاد وثمود من عقاب وتلقين درس، ولعلّهم يعيدون إلى هذا العالم جزءًا من الألق القيمى الذى تحاول حضارة العصر إطفاءه، كما انطفأ فى غزة الدم والدموع.
ولكن ماذا عن رسالة هؤلاء الأبطال لقادة وشعوب الجزء المعنى مباشرة بموضوع غزة من هذا العالم: بلاد العرب والإسلام؟ هل أن هذا الجزء المعنى سيغوص فى أعماق هذه الرسالة ليستخلص منها أن، السكوت على الظلم فى أى مكان هو تهديد للعدالة فى كل مكان؟ وهل سيسمع فى صدى هذه الأنشودة المدوية عبر البحر الأبيض المتوسط وشطئآن غزة صوت الحق وهو يصرخ فى وجوه الكل: نسوا الله فأنساهم أنفسهم؟
ما يهمنا فى الدرجة الأولى هو التأكيد على أن ما قام به هؤلاء الأبطال من تحدّ لنظام إجرامى لم يعرف العالم مثل قسوته تجاه أناس أبرياء ومثل كرهه لكل ما هو نبيل وعادل سيساعد، حتى ولو كان بثمن مكلف، على عودة ثقة الناس فى كل عوالمهم الشخصية والمشتركة التى تعرّضت للاهتزاز ولليأس من البشرية منذ حوالى عامين. وبدأ الكثيرون يفقدون الكثير من معتقداتهم التى آمنوا بها طيلة حياتهم، وعلى الأخص إيمانهم بالأخوة الإنسانية، بل حتى التساؤل عن العدالة الربانية عند البعض.
اليوم يثبت هؤلاء بطلان ما أراد زرعه البعض من قيم المصالح الأنانية والجبن أمام قيمة قول الحق الأخلاقى على شواطئ غزة المدّمرة.
إذا كنا نعرف طبيعة الحكم الحالى فى الولايات المتحدة الأمريكية وعدم إنسانية مسيرة الصهيونية منذ نشأتها، فإننا واثقون أن استجابتهما لنداء أبطال سفن غوث غزة وأهليها الجياع المحاصرين لن يكون إلا اللا مبالاة والازدراء، إن لم يكن اتهامهم بالتهمة إياها، معاداة السامية، لكن ردّ الفعل هذا لن يكون مستغربًا من دولة أمريكية تصهين نظام حكمها حتى النخاع، ومن نظام حكم صهيونى يتبارى قادته فى تطبيق فظائع هولوكوست شامل شيطانى يبزّ فى فظاعاته وجنونه وطيلة سنوات ممارسته أضعاف ما ارتكبه الهولوكوست النازى بحق بعضهم فى ألمانيا النازية لبضع سنين قليلة.
لكن السؤال الذى يطرحه الملايين من العرب والمسلمين هو: ماذا سيكون رد فعل أنظمة حكم ومؤسسات المجتمعات المدنية فى بلاد العرب والمسلمين إذا قامت الجهتان، الأمريكية والصهيونية، برفض دخول أية إغاثة إنسانية سيقدمها أبطال السفن السبعين إلى شعب غزة، بل واحتجاز السفن وسجن وترحيل أبطالها بالقوة إلى أوطانهم؟ هل سيستدعون جميع سفرائهم من أمريكا؟ وهل سيقطعون جميعهم كل علاقة من أى نوع كان، سياسية واقتصادية وثقافية وسياحية وشخصية، مع الكيان الصهيونى؟
أم أنهم سيكتفون ببضع تعابير عاطفية تصف الحدث وتستنكره ويتجاهلون آلام وأحزان وكوارث أطفال ونساء وشباب وكهول غزة، ليواجه عشراتهم الموت يوميًا دون أن يرفّ جفن من أقسموا على أنهم سيكونون حماة الدّيار والمدافعين عن كرامة ساكنيها؟