المصريون وقناة السويس
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الجمعة 10 أكتوبر 2014 - 8:25 ص
بتوقيت القاهرة
دفع عشرات الآلاف من أجدادنا المصريين حياتهم ثمنا لحفر واستكمال مشروع قناة السويس، وذلك أيا كان مصدر فكرة حفر القناة، وأيا كانت المصالح التى دفعت لحفرها، وأيضا بالرغم من ظروف السخرة المجحفة التى عانى أجدادنا المصريون منها خلال فترة قيامهم بحفر القناة، وذلك على مدى أكثر من عشر سنوات ما بين شهر إبريل من عام 1859 الذى شهد بداية حفر القناة فى عهد الخديو سعيد وشهر نوفمبر من عام 1866 الذى شهد حفل افتتاح القناة للملاحة الدولية فى عهد الخديو إسماعيل، وبحضور عدد من قيادات العالم حينذاك ومن بينهم إمبراطورة فرنسا «أوجينى».
وبعد افتتاح قناة السويس بما فاق أربعين عاما، وفى ظل الاحتلال البريطانى لمصر وبالرغم منه، انتفض الشعب المصرى يرفض مؤامرات استعمارية خارجية سرية سعت فى الخفاء لتمرير صفقة مع بعض الساسة المصريين لمد امتياز شركة قناة السويس المملوكة للأجانب، وهو الامتياز الذى كان أصلا يمتد لتسع وتسعين عاما ولم يكن قد مر عليه سوى أقل من نصف مدته، وكان من مظاهر، وأيضا نتاج، هذا الغضب الشعبى اغتيال بطرس باشا غالى، السياسى المصرى البارز حينذاك، لما ذكر وقتها، عن حق أو باطل، عن تجاوبه مع مطلب مد الامتياز.
•••
وبعد ما يقترب من أربعة عقود ونصف العقد من ذلك الموقف التاريخى للشعب المصرى دفاعا عن ملكيته للقناة، جاء القرار التاريخى للزعيم الراحل جمال عبدالناصر بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية ليفجر طاقات التحرر، ليس فقط فى الشعب المصرى، ولا حتى فى الشعوب العربية، بل وعلى مستوى شعوب العالم الثالث بأسرها، وليرسى مبدأ جديدا فى العلاقات الدولية والقانون الدولى، ألا وهو حق الشعوب فى السيادة على أراضيها وعلى مواردها وثرواتها الطبيعية، وليضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: فقد بدأ تنفيذ المشروع القومى العملاق لبناء السد العالى بفضل قرار التأميم هذا، كما جسدت هزيمة العدوان الثلاثى البريطانى الفرنسى الإسرائيلى على مصر، والذى جاء ردا على قرار تأميم القناة، فى أكتوبر ونوفمبر 1956، مجد المقاومة الشعبية المصرية وكذلك نهاية نظام دولى قديم قائم على الإمبراطوريات الاستعمارية وبزوغ نظام دولى جديد كان من المأمول أن يتسم بالعدالة والديمقراطية والشفافية.
وبالرغم من الهزيمة العربية فى حرب الخامس من يونيو من عام 1967 وتوقف الملاحة بقناة السويس بسبب الاحتلال الإسرائيلى لشبه جزيرة سيناء، فإن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر رفض كل الاقتراحات التى تلقاها بغرض استئناف الملاحة فى قناة السويس، وذلك دون أن يرتبط ذلك باستعادة السيادة المصرية الكاملة على القناة بشاطئيها، وكذلك رفض أى أفكار تربط فتح القناة للملاحة الدولية مع فرض وجود دولى للإشراف على إدارة القناة أو لضمان الأمن والسلامة البحرية وحرية المرور بها.
وحتى عندما أطلق الرئيس الراحل محمد أنور السادات مبادرته الأولى للسلام مع إسرائيل بعد شهور من توليه منصب رئيس الجمهورية، وتحديدا فى فبراير 1971، فقد اشترط انسحاب إسرائيل لمسافة 15 كيلومترا داخل سيناء بعيدا عن المجرى الملاحى لقناة السويس، بحيث يمكن افتتاح القناة للملاحة الدولية فقط تحت إشراف مصرى كامل وبدون أى شبهة للمساومة على السيادة المصرية الكاملة على القناة.
كما كان قرار الرئيس الراحل السادات بإعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية فى الخامس من يونيو من عام 1975 بعد ما يقرب من عامين على حرب السادس من أكتوبر/ العاشر من رمضان المجيدة، وبعد جهود تطهير المجرى الملاحى للقناة وتوسيعه لاستئناف الملاحة الدولية به، بمثابة تأكيد جديد على تمسك مصر بسيادتها الكاملة على القناة وعلى عمق الارتباط العضوى الذى يصل بين الشعب المصرى وقناة السويس التى ضحى بالنفيس والغالى فى سبيل حفرها فى القرن التاسع عشر ثم استعادة السيادة عليها فى عام 1956 ثم إعادة فتحها للملاحة الدولية عام 1975 بفضل حرب أكتوبر المجيدة.
•••
ومنذ سنوات قليلة، وعندما ثارت أقاويل عديدة حول اتجاه، فى إطار موجة الخصخصة العارمة التى اجتاحت مصر فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق مبارك، لخصخصة قناة السويس تحت مسميات مختلفة ومتنوعة، انتفض الشعب المصرى من جديد بمختلف فئاته الوطنية بشكل سلمى وعبر القنوات السياسية والإعلامية بالإضافة إلى حركة الاحتجاجات فى الشوارع والميادين ومواقع العمل ومؤسسات التعليم ومقار النقابات، رافضا لأى تحرك فى هذا الاتجاه، وهو الأمر الذى نجح فى إجهاض مجرد التفكير فى مثل هذا الأمر فى مهده، ووأده قبل خروجه إلى النور.
وعندما أثيرت مخاوف فى عدة مناسبات نتيجة أقاويل من وجود اتجاه لبيع، أو على الأقل رهن، قناة السويس مقابل أموال تحتاجها مصر للخروج من أزمتها الاقتصادية أو مقابل مشروعات ذات صبغة احتكارية لتلك الدولة أو تلك فى منطقة القناة سواء بالاستحواذ أو بالإنشاء والتطوير، قام الكثير من المصريين، ومن مختلف الاتجاهات، ليحذروا من أى مساس بالسيادة المصرية على القناة، ومن أى شبهة تفتح نافذة للتفريط الجزئى أو الكلى، العاجل أو الآجل، فى مصرية القناة التى دفع الأجداد حياتهم ثمنا لحفرها فى القرن التاسع عشر، ودفع الآباء حياتهم ثمنا لاستعادة السيادة عليها فى عام 1956، ودفع الابناء حياتهم ثمنا لاستعادة ضفتها الشرقية فى شبه جزيرة سيناء الغالية خلال حرب أكتوبر المجيدة عام 1973.
وقد عانت محافظات القناة على مدار عقود مما يمكن أن نسميه بشعور لدى أهلها بالشكوى من إهمال الدولة لهم وعدم الاهتمام بمطالبهم ومشاكلهم وعدم الالتفات إلى قضاياهم أو تكريس الموارد الكافية لحل هذه المشكلات، وعدم إقامة المشروعات الضرورية لحياتهم أو لتوفير فرص العمل اللازمة لهم ولأبنائهم ولضمان الاستدامة للتنمية فى مدنهم وقراهم. ويزيد من هذا الشعور لدى سكان مدن ومحافظات القناة إحساسهم بأنهم لعبوا دورا فى الدفاع عن الوطن عموما وقناة السويس تحديدا على مدار التاريخ الحديث والمعاصر، خاصة فى الحروب والمواجهات العسكرية الكبرى فى مواجهة قوات الاحتلال أو من يرغب فى احتلال مصر والقناة، وبالتالى فإنهم يعتقدون أنه قد حان الوقت لأن يرد لهم الوطن ذلك فى الوقت الذين يحتاجون فيه إلى العناية من الدولة ومن رجال الأعمال ومن المجتمع المدنى ومن كل قطاعات الدولة الرسمية وغير الرسمية.
•••
وقد جاء إطلاق مشروع حفر قناة السويس الجديدة، وما هو مفترض أن يعقب ذلك من الانطلاق العملى إلى تنفيذ مشروع تطوير محور قناة السويس ليكون محور تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، ليفتح الباب بأن يسمح هذا المشروع القومى العملاق بإيجاد مئات الآلاف من فرص العمل للمصريين، بما يحقق على المدى المتوسط والبعيد تضاعف الإنتاج وبناء قاعدة اقتصادية حقيقية، وليست ريعية، صلبة، وما سيترتب على ذلك من توزيع أكثر عدلا للدخل والثروة فى مصر والتحرك نحو تحقيق أفضل للعدالة الاجتماعية وتوفير للخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين من رعاية صحية وفرص تعليمية وغيرها. كما جاء البدء فى طرح أسهم مشروع حفر القناة الجديدة ليظهر الإقبال الشعبى الواسع على شرائها مدى وعمق ارتباط، بل والتصاق، المصريين بالقناة ماضيا وحاضرا ومستقبلا.