«اليهودى» فى فيلم «لعبة الست»

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الثلاثاء 11 أكتوبر 2022 - 12:07 م بتوقيت القاهرة

رغم مضى قرابة ثمانية عقود ونصف العقد على إنتاجه وعرضه، يبقى فيلم «لعبة الست» إحدى أهم الروائع السينمائية التى عرفتها الشاشة الفضية المصرية، منذ إطلالتها الأولى نهاية القرن التاسع عشر. وقد كان العمل المأخوذ عن رواية، حملت ذات العنوان، للشاعر والروائى الفرنسى، بيير لويس، عام 1898، أول تجربة إخراج سينمائى لولى الدين سامح. بينما تعاون الثنائى الألمعى ورفيقا الدرب، نجيب الريحانى وبديع خيرى، فى كتابة السيناريو والحوار. فيما كانت البطولة من نصيب، تشارلى تشابلن العرب نجيب الريحانى، بمشاركة تحية كاريوكا، وعبدالفتاح القصرى، ومارى منيب، وحسن فايق، وبشارة واكيم، وعزيز عثمان. أما شخصية «الخواجة إيزاك عنبر»، رجل الأعمال اليهودى، فتصدى لها، نجم الأداء الفنى الراقى والرشيق، وصاحب الجماهيرية الطاغية، سليمان بك نجيب.
خلافا لسائر الأعمال الفنية العربية، السابقة واللاحقة، غرد هذا الفيلم المتميز خارج السرب، فى معالجته الدرامية لشخصية اليهودى. فعلى غير المعهود، جاءت شخصية، «الخواجة إيزاك عنبر»، إلى حد كبير، معتدلة، سوية، وغير مجافية للإنسانية. كما لم تعوزها الموضوعية، أو تنقصها حصافة أو إنصاف. وهو ما برع صناع تلك التحفة الفنية فى إبرازه، عبر ملامح شتى.
أولها، اختيار، سليمان بك نجيب، لأداء دور اليهودى. فبجانب كونه ارستقراطيا خفيف الظل، يعد نجيب فنانا موهوبا، يحظى بشعبية جارفة داخل الوسط الفنى وخارجه. حتى أن أداءه لشخصية «الباشا» فى جل أفلامه، قد أسهم فى إذابة العديد من الحواجز والأحقاد الاجتماعية التى شابت العلاقة بين طبقة النبلاء، وقطاع عريض من عامة الشعب، وقتئذ. وبناء عليه، أضفى اضطلاعه بتلك المهمة الشاقة، مسحة إنسانية، افتقدتها أو كادت، جل الأعمال الدرامية التى تناولت شخصية اليهودى. والتى تعمد صناعها ألا يتمتع مؤدوها بنفس وداعة وجماهيرية سليمان بك نجيب.
تجلى الملمح الثانى، فى إظهار صاحب العمل اليهودى، كمن يتحدى الأعراف والتقاليد المقيتة، التى كانت سائدة، حينئذ، بقبوله تعيين مستخدم فى متجره، بلا وساطات رغم تهافت أفواج العاطلين، طلبا للوظيفة، متباهين بما يتحصنون به من محسوبيات. حتى أنه كان يجاهر بشكواه من تفشى ظاهرة «الواسطة» فى المجتمع المصرى وقتها، مستنكرا اعتماد أحد المتقدمين للوظيفة على توسط إحدى الراقصات! ورفضا لمثل هذا الخلل، تجاهل أولئك المتقدمين قاطبة، وأسند الوظيفة إلى، حسن أفندى، الذى أعلن أن واسطته هى«ربنا». ولم يستنكف «الخواجة إيزاك» عن إبداء إعجابه ببساطته، وعصاميته.
فى إشادة صاحب العمل اليهودى بكفاءة مستخدمه، حديث التعيين، وتبشيره بمستقبل مشرق لديه، تراءى الملمح الثالث. وذلك بعدما أبلى بلاء حسنا فى التعامل مع ذبون أخرس جاء ليتبضع، فيما عجز الجميع، بمن فيهم «الخواجه إيزاك» نفسه، عن التفاهم معه. فكان «حسن» هو الوحيد الذى نجح فى مجاراته عبر لغة الإشارة. ولأن صاحب العمل اليهودى رجل موضوعى ومنصف، فقد أشاد بحسن صنيعه، ونصحه بالتفانى فى عمله، واعدا إياه بغد أفضل.
ويلوح الملمح الرابع، فى تسامى التاجر اليهودى عن الطمع فى ربح أصابه مستخدمه، جراء استثماره غير المقصود، فى مال صاحب العمل. حينما كلفه بشراء سجائر، لكنه أخطأ واستثمره، بعفوية وحسن نية، فى سباق الخيل، ليربح مالا وفيرا، بمقاييس ذلك الزمان. غير أن التاجر اليهودى، الذى سبق وقام بتوبيخ موظفه البسيط لعجيب صنعه، ترفع، على غير المتوقع، عن تلقى الربح الذى أعاده إليه الموظف معتذرا، وعن طيب خاطر، استنادا إلى أن صاحب المال هو الأحق بعائد أمواله، ولو بغير قصد. لكن اليهودى أصر، بمنتهى التسامح، على احتفاظ الموظف بذلك الربح، انطلاقا من منطق عجيب ومثير، مفاده أن الأخير هو الذى استثمر المال، ومن ثم يحق له وحده الاستفادة بالعائد.
يبرز الملمح الخامس، فى إهداء التاجر اليهودى مستخدمه دعوة مجانية خاصة تلقاها من زوجة الأخير، التى أضحت فنانة ذائعة الصيت، لحضور حفلة راقصة تحييها بنفسها فى مكان، ربما يستعصى على أمثال الزوج المغدور، أن يكون من رواده. وهو بذلك قد منحه فرصة ذهبية لإفشال مخططات زوجته وأسرتها للإطاحة به، توطئة للزواج من لبنانى ثرى.
وفى الملمح السادس، يضطر «الخواجة إيزاك»، للهجرة إلى جنوب إفريقيا، فور وصول الجيش الألمانى إلى العلمين، مطلع العام 1942. فرارا مما يتربص به من بطش الألمان واضطهادهم. اللافت ههنا، أنه لم يهاجر إلى فلسطين، التى كانت تعدها العصابات الصهيونية، بدعم غربى، وطنا قوميا لليهود، فى حينها. ما يعنى أنه لم يكن صهيونيا، أو يهوديا متطرفا. وفى هذا المضمار، يؤكد الخبراء الموضوعيون من أمثال الأكاديمى والمؤرخ المرموق، الدكتور عاصم الدسوقى، على حقيقة مفادها أن خروج اليهود من مصر، إنما تم بملء إرادتهم. إذ لم يأت تحت ضغط من السلطات المصرية، أو نتاجا لملاحقة الجماهير. فقبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، اضطر بعض اليهود إلى مغادرة مصر مخافة انتصار الألمان على الإنجليز فى معركة العلمين واحتلال مصر، ثم التنكيل بيهودها، على غرار ما جرى فى بلدان عديدة.
أما الملمح السابع والأخير، فتمثل فى إقدام، «الخواجة إيزاك»، على استثمار ثقته فى كفاءة ونزاهة، وأمانة،«حسن»، مستخدمه المصرى المسلم، والمعدم أيضا. حيث ابتاعه متجره ضمن صفقة تتخطى حدود التصور. إذ طلب منه التوقيع على عقد بيع، تؤول إليه بموجبه ملكية المتجر والسيارة، على أن يقوم بسداد ثمنهما الباهظ، بالطبع، من عوائد المتجر وأرباحه فى المقبل من الأيام.
رغم تأسيه بسابقيه، لجهة تجنب الغوص فى شئون حياة اليهود اليومية، وطقوسهم الدينية، أو سبر أغوار دهاليز «الجيتو»، الذى اعتادوا على التمترس فى ثناياه، شكل فيلم «لعبة الست» مقاربة درامية استثنائية فى تقديم شخصية «اليهودى» فى السينما العربية. ربما لأن الفيلم أُنتج وعٌرض عام 1946، أى قبل حولين كاملين من إعلان قيام دولة إسرائيل. ففى حينها، لم تكن مشاعر الاستياء من تبعات تنامى المؤامرات اليهودية، أو تعاظم الخروقات الإسرائيلية والصهيونية، قد تحولت، بمرور الوقت، وعلى وقع تداعياتها الخطيرة واللاإنسانية المتفاقمة، إلى طود عظيم من العداء الصارخ بين العرب والكيان الإسرائيلى البازغ، على أشلاء ودماء الآلاف من الفلسطينيين والعرب.
لم تخل سنى ما قبل حرب فلسطين عام 1948، من انفجار التظاهرات بين الفينة والأخرى، بغية التذكير بقضية فلسطين. ما بين التنديد بوعد بلفور المشئوم عام 1917. أو إدانة الجرائم الوحشية للعصابات الصهيونية المسلحة فى فلسطين ضد الأبرياء من أصحاب الأرض، التى كانت خاضعة، حينها، للإدارة الإنجليزية. أو شجب قرار تقسيم فلسطين عام 1947. وأحيانا ما كان يتخلل بعض تلك التظاهرات، استهداف محدود لعدد من الممتلكات اليهودية. بيد أن أصداء تلك التطورات الأليمة لم تنعكس، سلبا أو بعمق، على المعالجات الدرامية للشخصية اليهودية. ففى ثنايا تأصيله لتلك المرحلة، أشار أستاذ علم الاجتماع، محمد سعيد فرح، إلى استمرار ثانوية، إلم تكن هامشية، الشخصية اليهودية فى غالبية الأعمال المسرحية والسينمائية، إبان تلك الحقبة، غير أن المخرج اليهودى، الإيطالى الأصل، توجو مزراحى، تمكن من استغلال موهبته الفنية، وتوظيف إمكاناته اللوجيستية والتقنية والاقتصادية الخاصة فى صناعة السينما، من أجل إبراز حضور الشخصية اليهودية فى السينما المصرية. فعبر نموذج اليهودى الكوميدى «شالوم»، قدم مزراحى سلسلة أفلام «شالوم الترجمان»، و«العز بهدلة»، و«شالوم الرياضى». ومن خلالها، نجح، إلى مدى بعيد، فى لفت الانتباه إلى مدى اندماج اليهود، وتأثيرهم فى المجتمع المصرى.
عقب إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، بزغت موجة جديدة من الأعمال الدرامية، التى تبنت رؤية مغايرة لشخصية اليهودى. إذ عكست، فى جوهرها، حزمة تغييرات اعترت الصورة الذهنية لتلك الشخصية، إن فى الوعى الجمعى العربى، أو لدى الموروث الشعبى المصرى. ومن ثم، بدت شريرة، أنانية، عدوانية، وكارهة للآخر. وهو التحول، الذى شكل تناغما فريدا، فى هذا المضمار، بين الإبداع الفنى العربى، ونظيره الغربى، المقتبس من روايات، كمثل «تاجر البندقية»، لويليام شكسبير، و«أوليفر تويست»، لتشارليز ديكنز.
وفى سفره الصادر عام 2005، بعنوان «اليهود والسينما فى مصر»، يذهب الناقد السينمائى، أحمد رأفت بهجت، أبعد من ذلك. حيث يسلط الضوء على مساعى اليهود المستميتة لتوظيف السينما المصرية، طوال النصف الأول من القرن العشرين، لخدمة المشروع الصهيونى. سواء من خلال الإسهامات الملموسة للفنانين والمخرجين والمنتجين اليهود، أو عبر تأثر مسيرة تطور السينما المصرية، بهيمنة الاستعمار البريطانى، وتحكم الرأسمالية الأوروبية، والنفوذ المتنامى للصهيونية العالمية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved