أكتوبر الانتصار.. ومسألة ثغرة الدفرسوار
أيمن النحراوى
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 أكتوبر 2023 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
الحرب الدعائية والإعلامية هى جزء لا يتجزأ من الحرب والعمليات العسكرية، وفى إطار الصراع العربى ــ الإسرائيلى، كان حرص إسرائيل دوما على تضخيم إنجازاتها لتصورها إعلاميا على أنها انتصار باهر، وليست أحداث يونيو 1967 سوى مثال على ذلك، فالقصف الجوى الإسرائيلى الذى أعقبه قرار المشير عامر بالانسحاب العام من سيناء، صورته إسرائيل للعالم على أنه هزيمة ساحقة وأخذت تضخم تلك الدعاية إلى أن سقطت هى نفسها ضحية لها فى 1973.
فى أكتوبر 1973 سارت إسرائيل على ذات النهج، فرغم الانتصار الباهر الذى حققه الجيش المصرى بعبور أصعب مانع مائى واجتياح وإسقاط أقوى خط دفاعى فى تاريخ الحروب، والاندحار الكامل لقواتها أمام الجيش المصرى، إلا أنها ادعت وما زالت تدعى كذبا أن عملية الثغرة التى قامت بها غيرت نتيجة الحرب إلى التعادل، فى محاولة فاشلة منها لتقليص حجم الانتصار المصرى، وحفظ كرامتها التى مرغت فى الحرب الحقيقية الوحيدة التى خاضتها فى مواجهة الجيش المصرى.
• • •
بدأت مسألة الثغرة عندما اخترقت طائرة الاستطلاع الأمريكية إس ــ آر 71 المجال الجوى المصرى يوم 13 أكتوبر 1973، على ارتفاع أعلى من 25 كيلومترا، وبسرعة تصل لثلاثة أضعاف سرعة الصوت، فاخترقت المجال الجوى فوق بورسعيد إلى الإسماعيلية إلى السويس، وغطت جبهة القتال كلها، ثم اتجهت إلى منطقة البحر الأحمر لاستطلاع موانئ الغردقة وسفاجا وكذا مطاراتنا ووسائل الدفاع الجوى بالمنطقة، ثم التفتت غربا إلى مدينة قنا ثم شمالا إلى الدلتا، حيث استطلعت المطارات المصرية ووسائل الدفاع الجوى والاحتياطيات، وبعد أن استكملت رحلتها الاستطلاعية عادت إلى البحر المتوسط للهبوط فى قاعدتها بأوروبا.
وفرت الطلعة الاستطلاعية الأمريكية معلومات كاملة عن التوزيع التعبوى للقوات والاحتياطات، وأتاحت لإسرائيل صورا جوية دقيقة ومعلومات كاملة عن المساحة بين الجيشين الثانى والثالث، الأمر الذى مهد لتنفيذ عملية ثغرة الدفرسوار.
جاءت بعد ذلك الأحداث لتؤكد أن القوات المصرية أصبحت تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وليس إسرائيل وحدها، فقد تلاحظ طفرة مفاجئة فى حجم وكثافة الهجمات الجوية المعادية، اعتبارا من يوم 14 أكتوبر، كما تم رصد تغيير فى الإعاقة الإلكترونية المضادة لمحطات الرادار، ومحطات توجيه الصواريخ اعتبارا من هذا اليوم.
سبق ذلك كله فى اليوم التالى للحرب، بدء الجسر الجوى الأمريكى بطائرات النقل العملاقة جالاكسى وستارلفترسى وغيرهما من القواعد العسكرية الأمريكية وقواعد حلف الأطلنطى فى أوروبا، لتنزل دبابات السنتوريون الحديثة والأنواع المختلفة من الصواريخ وكل أنواع الأسلحة فى مطارات إسرائيل، ومطار العريش المحتل آنذاك لتتجه مباشرة إلى جبهة القتال فى سيناء.
• • •
سارعت إسرائيل لتنفيذ الخطة شوفاح يونيم، وهى الاسم الكودى لعملية الثغرة، فتم حشد قوة من 6 لواء مدرع نحو 540 دبابة، ولواء ميكانيكى 30 دبابة، ولواء مظلات 2000 مظلى، لتنفيذ عملية الثغرة كعملية تكتيكية مرحلية.
فى أعقاب اليوم الأول لعملية الثغرة، وبرغم المفاجأة إلا أن الخسائر الإسرائيلية كانت جسيمة كثمن لفتح محور العبور إلى الضفة الغربية للقناة، ويلخص ذلك حوار تليفونى بين موشيه ديان وشموئيل جونين كالتالى:
ديان: لقد حاولنا لكن كل محاولاتنا ذهبت أدراج الرياح، ولذا أقترح إلغاء فكرة العبور لأن المصريين سيذبحون أولادنا على الشاطئ الغربى. جونين: لو كنا نعلم مسبقا أن ذلك سيحدث ما بدأنا عملية العبور، أما الآن فقد عبرنا فلنستمر حتى النهاية المريرة.
• • •
دارت فى الأيام الأولى لعملية الثغرة معارك طاحنة تمكن فيها أبطال الجيش المصرى من إيقاف وتحجيم القوات الإسرائيلية التى تسللت وعبرت إلى غرب القناة، كان الثمن باهظا لكن الهدف كان يستحق.
بعدها بأيام وعند زيارة ديان للجبهة للوقوف على معارك 15 و16 و17 أكتوبر قال: لم أستطع إخفاء مشاعرى عند مشاهدتى لأرض المعركة فقد كانت المئات من الدبابات والعربات العسكرية محترقة ومدمرة ومتناثرة فى كل مكان، ومع اقترابى من كل دبابة كنت أتمنى ألا أرى العلامة الإسرائيلية عليها، وانقبض قلبى كثيرا من كثرة الدبابات الإسرائيلية المدمرة فقد كان بالفعل هناك العشرات منها، ولم أشاهد هذا المنظر طوال حياتى العسكرية، فقد كان أمامى ميدان واسع لمذبحة أليمة، فقد كانت تلك الدبابات والعربات المحترقة دليلا على المعركة الأليمة التى دارت هنا.
• • •
فى الأيام التالية واصل الإسرائيليون محاولاتهم الحثيثة للسعى لتحقيق أى انتصار إعلامى ومعنوى كاحتلال مدينة السويس، لكنهم باءوا بالفشل 3 مرات فى السيطرة على المدينة مع بسالة أبطال المقاومة الشعبية ورجال الجيش الثالث، بل إن الچنرال «أدان» قائد قوة الاقتحام قد استغاث فى المرة الثالثة بسلاح الجو الإسرائيلى ليغطى انسحابه تاركا خلفه العديد من المدرعات والدبابات المحترقة عند مدخل المدينة.
تحول الإسرائيليون بعد ذلك لحصار الجيش الثالث، لكنهم تعرضوا أثناء ذلك لخسائر جسيمة فى الأرواح والمعدات لإسرائيل على يد أبطال قوات الصاعقة المصرية الذين وصفهم الجنود الإسرائيليين بأنهم يقاتلون كالأشباح، فبات المحاصرون الإسرائيليون هم المحاصرون، والتسجيل الصوتى الشهير للمكالمة بين شارون وقياداته يتبادلون فيه الاتهامات بشأن فشل عملية الثغرة.
وهكذا وجد الإسرائيليون أن موقفهم فى الغرب حرج وضعيف ومخيف، لذلك دعموا قواتهم فى جيب الدفرسوار حتى وصلت إلى 7 ألوية تضم نحو 550 دبابة، وكان تنظيمهم لقواتهم يبين أنهم كانوا فى وضع الدفاع لا الهجوم، كما قاموا بزرع 750 ألف لغم حول قواتهم تحسبا لأى هجمات عليهم بعد أن أحيط بهم من كل جانب ومن جميع الاتجاهات، عدا ممر ضيق جدا فى الدفرسوار بعرض 6 كيلومترات.
• • •
قبل وصول قوات الطوارئ الدولية للمنطقة لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار، كانت حرب استنزاف مركزة قد بدأت فى مواجهة القوات الإسرائيلية فى الثغرة حتى لا تتاح لها الفرصة لتثبيت نفسها فى مواقع دفاعية، وكذا استنزافها وتكبيدها أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والمعدات حتى يحين وقت تصفيتها، وقد حدث بالفعل 452 اشتباكا بالنيران منذ إيقاف إطلاق النار بقرار مجلس الأمن رقم 340.
وفى وصف بليغ للمشير الجمسى عن موقف القوات الإسرائيلية قوله: كانت هذه القوات فى موقف لا تتمكن فيه من العودة إلى شرق القناة، ولا تتمكن من تحقيق أى نجاح غرب القناة.
وفى النهاية فقد تحولت القوات الإسرائيلية فى الثغرة إلى عبء لوجيستى على جيشها وقيادتها، فضلا عن تحولها من عملية للضغط على مصر، إلى أن باتت قواتها رهينة لدى مصر، وجاءت مفاوضات اتفاق الفصل بين القوات، لتظهر حقيقة الثغرة عندما كان أول مطلب لإسرائيل هو الانسحاب بقواتها من الثغرة والسماح لها بالعبور عائدة إلى شرق القناة.
فيما بعد كتب الرئيس السادات فى كتابه (البحث عن الذات): «كنت واثقا كل الثقة من أن عملية الثغرة مغامرة طائشة ساذجة ومكتوب لها الفشل المحقق، فلو أننى أمرت بتصفية الثغرة حسب الخطة الموضوعة (شامل) لكانت إسرائيل ستفقد 400 دبابة وعشرة آلاف عسكرى ما بين قتيل وجريح، ولم يكن هذا بالأمر الصعب أو المحتمل بل الأكيد، كل الحسابات العسكرية كانت تشير إلى أن هذه المعركة لو تمت فستكون مذبحة التاريخ».
نصر الله الجيش المصرى البطل فى كل ميدان، تحيا مصر