السماء لا تمطر ذهبًا والله لا يسقط البلايين
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 10 نوفمبر 2019 - 11:20 م
بتوقيت القاهرة
شىء ما فى التاريخ يعلمك مع تقدم العمر أن هذه المادة ليست فقط لتكملة عدد الحصص كما يعتقد الكثيرون وأنها للحفظ ولا قيمة لها والزمن يتقدم.. ومع سباق السنين، تعود بك بعض المواقف إلى تذكر معلم أو معلمة التاريخ اللذين لم يكن بينك وبينهما ود، وهما اللذان قالا لكم أن من لا يعرف تاريخه لن يعرف كيف يعيش واقعه ولن يرسم مستقبله. بقيت تلك العبارات «ترن» فى أذنك والشوارع حبلى بالمتظاهرين يرددون هذه المرة «من أين لك هذا؟» ويريدون المحاسبة ولن يكتفوا برد شبيه بـ«هذا من فضل ربى»! كانت هاتان العبارتان أحد دروس مراحل مختلفة من تاريخنا الحافل بأولى الأمر الذين أفسدوا واستباحوا الأرض وآخرين جاءوا ليعيدوا القيم التى كان من المفترض أن نحافظ عليها بل نتمسك بها كما حبة رمل ذاك الوطن.
***
لم تكن عبارات مثل الفساد والمحاسبة والشفافية معروفه حينها بل كثيرون يعتبرونها الآن دخيلة على القاموس العربى وقد تسللت له من قواميس متعددة حتى أصبح ترديد كلمة شفافية أكثر من مرة يعنى أنك «عصرى» بجدارة! عندها، أى فى كتب التاريخ وحكاياته، كانت الكلمات أكثر مباشرة غير منمقة ولا مغمسة فى الشهد. الفاسد هو فى الحقيقة سارق وكثيرا من الأحيان هو سارق من بيت المال الذى هو الآن يمكن أن يفسر بكثير من المؤسسات ذات المبانى الزجاجية الفخمة ينظر من خلف بلورها القائمون بملابسهم الأنيقة يتطلعون إلى المارة المتعبين من قسوة الأيام بل من انتشار «الحرامية» بينهم. الحرامية هى الوصف الأدق لما يقوم به كثيرون من المسئولين والمعنيين والقائمين على حكوماتنا ومؤسساتنا بل هم المؤتمنين على المال العام وهنا لا يمكن إلا أن يكرر المراقب «حاميها حراميها»..
***
أصبحت سرقة المسئولين جزءا من متطلبات الوظيفة، من لا يختلس فلا مكان له بين ذاك الجمع، سمه ما شئت، ولكنه فى نهاية الأمر ــ وكما حدثنا التاريخ ــ «عصابة الحرامية» بعضهم كبار جدا وآخرون أقل طموحا أو هم من أولئك الذين يحصدون الفتات. يجلسون عند كعب السلم أو تحت الطاولة يجمعون ما يتساقط من هنا وهناك حتى يصل الداء إلى أصغر موظف أو عامل أو تاجر.. عند صغار الموظفين يدفع المواطنون فارق المرتبات المتدنية بشكل أو بآخر. فالدولة مسئولة عن تكديسهم بمرتبات لا تتلاءم مع تكاليف الحد الأدنى من الأجور أو الكرامة، تلتصق المكاتب وتكتظ الغرف ويتسلى الموظفون وهم يرددون «ساعات العمل على قدر المرتب»! ويتحولون إلى موظفين بالقطعة «يسيرون» و«يسلكون» أمور من يشاءون بمقابل ما يعتمد على حجم العمل المطلوب إنجازه بعيدا عن الأنظار أو ربما أمام الأعين «عينى عينك»!
***
ألا تتذكرون ذاك العبقرى محمود مرسى فى فيلمه الشهير «حد السيف» عندما كان يشغل وظيفة عالية نسبية ولكن أجرها أقل من طبال عند راقصة درجة خامسة.. عندما تمسك بمبادئ كانت قد بدأت تتحول إلى مادة تدرس فى كتب التاريخ والأخلاق، ضاق به العيش فلم يكن منه إلا أن استغل موهبته فى العزف على القانون وانضم لفرقة راقصة.. ولكن تلك الشخصية التى رسمت بعبقرية شديدة انقرضت كما الديناصورات..
***
كان ذاك الأمير البسيط يبقى على وزرائه لسنين طويلة، كلما غير الجيران والرؤساء الذين يلتقى بهم فى ذاك الجمع الذى سمى جامعة لهم! قالوا له ألا يوجد فى البلد إلا «هل ولد» فيبسم لهم ويردد حكمته إذا عينت جددا سيبدأون فى السرقات من جديد ولكن هؤلاء قد شبعوا.. كانت لديه الحكمة بفطرة لا تدرس فى المدارس أو الجامعات العريقة..
***
لم يكتف الشباب برفع صوتهم ومواجهة تلك الوجوه التى كانت حتى الأمس تملأ الكون وتطغى على شاشات التلفزة وبرامجها السمجة المغرقة فى الدعاية الرخيصة، بل توسعوا ليشملوا فيها رجال الدين، من كل دين وطائفة فكانت المرة الأولى التى يوجه السؤال وتكسر قدسية رجال الدين وليس الدين نفسه. أولئك الذين حرفوا الدين وحولوه إلى وسيلة لنشر خطاب الكراهية أو الخزعبلات أو العنف وأيضا مصدر رزق حتى أصبحوا من أصحاب الأراضى والعمارات الشاهقة والقصور والذهب فيما كان الأنبياء كل الأنبياء يحثون على التقشف والبساطة.. ربما هى الخطوة الأولى للطلاق المطلوب بين الدين والدولة أو ربما هى الخطوة الأولى التى يؤمن فيها الأفراد بأن علاقتهم بالرب ليست بحاجه إلى وسيط لا يختلف كثيرا عن صفات التسلط والهيمنة التى تفرضها بعض تلك الأنظمة.. عودوا لكتب التاريخ أيضا لتعرفوا ماذا حدث لتلك الإمارات التى انتشرت فيها السرقات وعم فيها الفساد، تعلموا ربما يفيد العلم ولو متأخرا!
كاتبة بحرينية