تقسيم عمل
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 10 ديسمبر 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
في كثير من بيوتنا يوجد تقسيم للعمل الأُسَري بين الزوجين، فالحياة اليومية صارت معقدة إلى الدرجة التي يصعب معها على شخص واحد أن يتحمل بمفرده كل مسؤولياتها. هذا التقسيم قد يكون أفقياً كما يحدث عندما يتفق الزوجان على اقتسام توصيل الأولاد للمدارس أو الأصدقاء أو التمرينات الرياضية فيما بينهما، كما قد يكون رأسياً عندما يتناوب الزوجان أداء نفس المهمة بين فترة وأخرى كمهمة المشتروات الأسبوعية مثلاً أو تموين السيارة أو كي الملابس. وقد يتسع نطاق تقسيم العمل ويدخل فيه الأولاد إن كانوا في سن مناسب فيشاركوا في ترتيب المنزل وتجهيز الطعام أو العناية بالإخوة والأخوات الأصغر. وبطبيعة الحال فإن ما سبق لا يمنع أنه لازالت هناك أسر لا يقبل بعض أفرادها التشارك في تحمل الأعباء والمسؤوليات، ونموذج الزوجة/ الأم "المسحولة" التي تفعل كل شيء ولا تجد من يساعدها يعد من النماذج الشائعة جدا، فلا يشفع لها ولأمثالها أنها تعمل كالرجل وتساهم في مصروف البيت ربما بأكثر مما يساهم هو، فهذه نقرة وتلك أخرى. ومع أنه من الناحية النظرية ليس هناك ما يمنع من أن نجد النموذج العكسي لهذه المرأة أي نموذج الزوج /الأب المسحول، إلا أنه ليس موجوداً في دائرة معارفي على أي حال. أما الأبناء الذين يتقمصون شخصية لوسي ابن طنط فكيهة في فيلم إشاعة حب فهم يمثلون ظاهرة شائعة وعابرة للطبقات، يتهربون من العمل المنزلي بدعوى التفرغ للمذاكرة، وفِي الوقت نفسه لا تخلو جعبتهم من الحجج الذكية للتهرب من المذاكرة.
***
ومع ذلك فإن مستوى التقسيم الذي يسعى هذا المقال لتسليط الضوء عليه يعد أبسط بكثيييير من كل المستويات السابقة، وقد لا يخلو الأمر من طرافة. في بعض الأسر توجد مهام حصرية لأفرادها، وهي مهام غير قابلة للتدوير والتبادل بحيث إن لم يقم بها صاحبها لا يقوم بها أحد غيره. على سبيل المثال كثيراً ما نلتقي بواحد من أفراد الأسرة يكون مسؤولاً عن تناول بقايا الطعام قبل أن تفسد، ويكون جاهزاً للتعامل مع الأغذية قبل أيام من انتهاء تاريخ صلاحيتها، ومع أن المثل الشائع يقول: كُل اللي يعجبك والبس اللي يعجب الناس، إلا أن صاحبنا نادراً ما يستخدم هذا المثل لعلمه المسبق بأن الرد عليه سيكون: يعني نرمي نعمة ربنا؟!، وربما يتم إفحامه بمثل قوي مضاد من نوع "وجع البطن ولا كب الطبيخ"، فأمثالنا الشعبية فيها من هذا وذاك. عموماً فإن من الواضح تماماً في ذهن صاحبنا أن احتمال أن يقوم شخص سواه بهذه المهمة احتمال غير وارد، ومن غير الوارد أيضاً توزيع البقايا على حارس العمارة ومعاونة المنزل مثلاً، أو من باب أولى ترشيد كميات الطعام ابتداء، وبالتالي فإن الجدل في رأيه يصبح غير منتج كما يقولون. أستطرد فأقول إن التجنيد لهذه المهمة السخيفة قد يكون له سبب آخر تماماً: ترتيب الثلاجة مثلاً ونقل الطعام من الأواني الأكبر للأواني الأصغر، وهذه ثقافة مصرية صميمة ومتوارثة عبّر الأجيال، إلا أن هذا لا يغير من الأمر شيئاً فالشخص المعني موجود دائماً لالتهام أي زيادات تخلفها عملية النقل.
***
يحدث أيضاً أن نلتقي بالشخص المسؤول عن نزع ورقة من نتيجة الحائط كل صباح إيذاناً ببدء يوم جديد، ومن المفهوم أن نتيجة الحائط صارت موضة قديمة عند الأسر الشابة، فنتيجة الموبايل متاحة للجميع والنتيجة الموجودة في ساعة اليد تفي بالمطلوب، لكن في الوقت نفسه فإن هناك بيوتاً مصرية كثيرة لاتزال تحافظ على اقتناء نتيجة الحائط وتشتريها من حُر مالها بعد أن تقلصت كثيراً إهداءات النتائج والأدوات المكتبية في مطلع العام الجديد. أما لماذا النتيجة اليومية لا الشهرية فلأن فيها إحساس بحركة الزمن من يوم لآخر، وفيها مواقيت الصلاة والإجازات والأعياد وأحياناً بعض المقولات المأثورة، وهي تصلح لاستخدامات متعددة بعد انتهاء وظيفتها الأصلية، خذ عندك مثلاً استخدامها كبديل مؤقت لزجاج النافذة المكسور، أو استخدامها كقواعد توضع فوقها قطع الأثاث الثقيلة حتى لا تترك أثراً على السجاد. أما مهمة التخلص من كيس القمامة المنزلية فحكايتها حكاية، يحدث أن تذهب هذه المهمة بشكل تلقائي إلى أحد أفراد الأسرة وفِي كثير من الأحيان يكون هو الزوج، ولقد أبدع المصريون في السخرية من هذه الظاهرة واتخذوها دليلاً على مظلومية الزوج، هذا مع العَلَم بأن هذه الظاهرة العجيبة تتجاوز الواقع المصري إلى "أوروبا والدول المتقدمة"، ففي الخارج يحدث عندما يتقاعد الرجل ويتوقف عن العمل أن يبدأ التندر عليه بأنه من الآن فصاعداً سيتفرغ للتخلص من القمامة.
***
أكثرنا يتأقلم مع هذا التقسيم التعسفي للعمل الذي يبعد عن المنطق ولا يتحلى بالمرونة، ولذلك عادة ما تنشأ مشكلة حقيقية عندما يغيب الشخص المقصود بشكل مؤقت أو دائم، ويبدأ البحث داخل الأسرة عن شخص بديل لأداء المهام الروتينية العديدة: تغيير بطاريات الأجهزة الكهربائية، إطفاء الأنوار المضاءة صباحاً ومساءً دون سبب، جمع الأكواب المتناثرة في كل مكان بعد استعمالها، وطبعاً طبعاً فتح باب المنزل، فهذه المهمة التي تثير فضول الأبناء في مرحلة الطفولة تتحول إلى واجب ثقيل عندما يتأكدون أن خلف الباب المقفول لا توجد مفاجآت مفرحة ولا حاجة. إن الجوانب الخفية لظاهرة تقسيم العمل الأسرية تحتاج في تحليلها إلى جهد عابر للتخصصات، فالاقتصاد وحده لا يكفي، وفي هذه الظاهرة من التفاصيل العجيبة ما لم يخطر على بال آدم سميث أبداً، فلينظر كل منا في تفاصيله الصغيرة ويفكر فيما يستطيع أن يقدمه لإثراء هذا الجهد التحليلي المبتكر .