«مريم ونرمين» رواية الطموح والمهارة
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
تبدو رواية (مريم ونرمين) للروائى عمرو العادلى أقرب إلى لعبة ذهنية خالصة، ينشغل مؤلفها بالحيرة التى يقع فيها بطلها الذى يسقط ضحية هاجس عن ضياع رواية كتبها بعنوان (مريم ونرمين).
والمتابع لإنتاج عمرو العادلى يعرف أن لديه هوس واضح بأن تحمل أغلب رواياته أسماء أعلام. وقد أشارت إلى ذلك الصديقة الروائية منصورة عز الدين فى المناقشة التى نظمتها دار الشروق للرواية أول من أمس.
أول ما توقفت أمامه المناقشة مرتبط بجرأة المؤلف على تجريب أكثر من تقنية روائية داخل نص واحد.
وهذه مغامرة فنية كبيرة مطلوبة، لأن أغلب ما ينشر من روايات ينشغل بالحكاية أكثر من الانشغال بطرق سردها.
ورغم ذهنية البناء الفنى للرواية، فإن ذلك لا يفقدها عنصرى التشويق والإثارة اللذين يثيران اهتمام القارئ منذ الصفحات الأولى.
كما أن ثقافة المؤلف تبرز رغبته فى الاشتباك مع نصوص أو تقنيات شائعة لكتاب معروفين من أمثال يوسف إدريس أو غسان كنفانى فى صورة من صور التفاعل النصى.
وهذه المرة يختار نماذج عالمية أخرى لكتاب عالميين من أمثال: أومبرتو إيكو أو ساراماجو أو بورخيس، بداية من استعمال تقنية المخطوط كعتبة تشويقية تقود القارئ إلى عوالم متعددة تتناسل من نواة واحدة كما فى (ألف ليلة وليلة) وصولا إلى معارضة نصية لكاتب بحجم بورخيس فى مفهومه عن المكتبة أو تصوره عن المتاهة السردية وأطر النص اللا نهائى.
وإذا كان بورخيس عرف الجنة بأنها هى الكتب فإن الرواية تشير إلى أن البعض يعتبر الكتب (لعنة) لأنها أدت إلى اختفاء البطل. وتوحى الرواية للقارئ بأنها محاولة للبحث عن هذا البطل أو الكشف عن سيرته خلال رحلة استعادة المخطوط الضائع ومؤلفه (محيى الدين) حول امرأتين فى حياته، الأولى (مريم) وقد تزوجها وأنجب منها (ضحى) لكنه هجرها بعد أن عاش معها أكثر من عشرين عاما.
أما الثانية فهى (نرمين) التى ظهرت فى حياته ثم تزوجها فى السر، وكانت من بين قراء أعماله وتمنت لو علمها حرفة الكتابة لكنه تزوجها بدلا من أن يعلمها.
يعترف (محيى) لزوجته بهذا الزواج الجديد مما يدفعها لترك المنزل والعودة لبيت خالها فى العلمين ومعها ابنتها.
تبدأ الرواية عند لحظة وصول ابنة شقيقته (أروى) إلى شقته لتنظيفها كما اعتادت منذ أن غادر هو إلى العراق وفقد هناك.
ولأن أروى شغوفة بالكتابة، مثل خالها، فهى تقص علينا الحكاية من مكانها داخل بيته كما تنظر فى كتبه، رغم أن أمها نصحتها بالتخلص من الكتب لأنها تمثل اللعنة التى تسببت فى مأساة الخال ثم ضياعه فى العراق.
وأرجو من القارئ أن يلاحظ أن ما تبحث عنه أروى هو الخال كما أن من تذهب إليه مريم هو خالها أيضا.
ينشغل المؤلف باختبار أفكاره حول الكتابة، كما يتلاعب بتعدد أصوات الرواة، حيث يسلم الرواى العليم حبل السرد الذى كان ينقل ما عاشته (أروى) فى شقة خالها إلى صوت البطل (محيى الدين) وهو ينقل هواجسه التى عاشها بعد أن تمت دعوته لندوة حول روايته الضائعة من قبل امرأة تعرف عنه كل شىء وأكثر من ذلك، تبنى نبوءات عن وقائع تعيشها واستمدتها من روايته الضائعة.
يظن الروائى أن كل من يراهم فى حياته بعد هذا الضياع هم أشباح وأن هذه السيدة نفسها واحدة من بطلات الرواية.
تستكمل جميع الأصوات داخل الرواية الأجزاء الناقصة، إذ يقوم كل صوت بعمليات هدم وبناء للحكاية، ثم توريط القارىء فى اللعبة وما تطرحه من تحديات لا يمل من الإشارة إليها كلما وجد الفرصة.
الواضح أن للكاتب خبرة سردية واضحة رغم الاستغراق فى التفاصيل الذهنية فى الجزء الأول بطريقة مبالغ فيها، إلا أن خبراته تساعده فى خلق إيقاع تشويقى نتابع فيه ما عاشه فى رحلة البحث عن مريم بين قبائل الصحراء حيث دخل إلى عوالم غرائبية تدفعه لخوض معركة الدفاع عن عائلته وذاكرته المهددة بالشكوك.
ينسى (محيي) كل ماضيه ليصبح ذهنه صفحة بيضاء تماما بلا تاريخ.
تعرف (أروى) أن خالها الذى حلمتُ أنه قد مات ثم عاد إلى الحياة مرة أخرى، كأن الموت بيتًا يمكننى زيارته عدة مرات والخروج منه سالما.
يتردد صدى ذلك الحلم مرات ومرات، حتى يعتقدُ محيى أنه شخصين، أحدهما يذهب إلى عالم الأحلام والآخر ينتظره حتى يعود، وأصبحت الأشياء فى ذاكرته مقسمة إلى نصفين، كل منهما يبحث عن الآخر.
توصَّلتْ أروى فى نهاية المطاف إلى أن خالها قد استقر فى منطقة (أُكبار) الخيالية كما أخبرها بورخيس بذلك، فقد ذَكَرَ فى إحدى قصصه المدينة التى يفر إليها الهاربون من ضيق الواقع إلى رحابة الخيال.
صحيح أنه لا وجود لهذه البلدة فى كُتب التاريخ أو خرائط الجغرافيا، لكن صديق الراوى فى قصة بورخيس قال إنها موجودة بالعراق، مدينة تُشبه المؤلفين الذين يَكتبون بأسماء مُستعارة، مشكوك دائمًا فى أمر وجودهم، فبعد أن كتبتْ (أروى) جملتها الافتتاحية ابتلعتْها الحكاية، ففَرَدَتْ جناحيها وطارت.