القوة وحدها لا تصنع سلاما!
أكرم السيسى
آخر تحديث:
الأحد 11 مارس 2018 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
نشر طه حسين عام 1946 ثلاثة أعمال أدبية فى مجلة «الكاتب المصرى»، ترفع صرخة ضد الظلم الاجتماعى ودعوة للإصلاح، كان الأول ــ فى مارس ــ سلسلة فصول لقصة «المعذبون فى الأرض»، مُوجهة «إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل»؛ والثانى بحث ــ فى مايو ــ بعنوان «ثورتان»، تطرق فيه لثورة سبرتاكوس ضد الرقيق فى إيطاليا فى القرن الأول قبل الميلاد، ولثورة «الزنج» فى البصرة لقائدها عبدالله بن محمد، المعروف «بصاحب الزنج»؛ والثالث أقصوصة بعنوان «ما وراء النهر»، أَمْلَى أولى حلقاتها فى نوفمبر، ولم يُكملها.
الأقصوصة تدور أحداثها فى قصر ضخم، مُشيد على ربوة شديدة الارتفاع والاتساع، ويُطل على دار مبنى من الطين الغليظ بمنطقة منخفضة فى قرية قبيحة أقصى غايات القُبح، وزمان هذه الأحداث المتناقضة هو زمن إملائها، فهى تفضح الفوارق الاجتماعية، وتؤثم العلاقة بين أهل القصر وأهل القرية: علاقة الأسياد بالعبيد، فتصوِّر أناسا سيِئى الطباع، يتجبَّر قويُّهم على ضعيفهم، ويستذلُّ غنيُّهم فقيرَهم!
أَمْلَى طه حسين أقصوصته مستخدما أسلوب السخرية (irony)، فكان يقول الشىء ويقصد عكسه، بدأها بالتنكر للمكان: «لست أدرى أين وقعت أحداث هذه القصة، ولكنى أقطع بأنها لم تقع فى مدينة القاهرة» (ص 19 الطبعة الرابعة بدار المعارف)، وظل الراوى يبرئ مصر كلها من وجود هذه الأحداث على أرضها! وإمعانا فى تنكره للمكان ادعى أن أحداثها وقصورها فى إسبانيا! لأن مصر فضلا عن أن ليس بها هذه القصور، فإن لأهلها من الشهامة والإنسانية وحبهم للعدالة وكراهيتهم للظلم ما يجعلنا نستبعد وقوع أحداثها فى مصر! (ص 23)، هكذا يصف عميد الأدب العربى مجتمعنا قبل ثورة 52 متهكِّما وساخرا.
ولأن طه حسين كان من دعاة مشاركة القُراء المؤلف، فلقد أراد لهذه السردية أن تكون تفاعلية، لا تتم إلا بتعبئة فراغاتها البينيَّة التى تركها عامدا متعمِّدا، فـ«وراء النهر» حكاية تنتظر قارئها ليكملها، وقد أكملها الشعب المصرى بثورة 23 يوليو التى قامت لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص!
وما يؤكد أن عميد الأدب العربى كان ساخرا ومتهكما عندما قال: «لا يمكن أن تحدث هذه القصة فى مصر»، رسالته من إيطاليا إلى توفيق الحكيم، بعد أيام من قيام الثورة، فى 3 من أغسطس 1952، قال فيها :«يُخيل إلى أن للأدب حقه فى هذه الثورة الرائعة، هَيِأ لها قبل أن تكون وسيُصورها بعد أن كانت» (ص 14)، وهو ــ كما سبقت الإشارة ــ الذى نشر «المعذبون فى الأرض»، و«ثورتان»، فقد كان يقصد فى أقصوصته ــ تحديدا ــ مصر وأحوالها، وهكذا حوَّل الشعبُ المصرى خيالَ طه حسين إلى واقع، عندما لبى طلبه مشاركة القارئ فى استكمال أحداث القصة!
***
فللخيال وللأدب وللإبداع (fictional) دورها المهم فى الإصلاح، وكذلك للواقع وللتاريخ ولتجارب الماضى (factual) دورها أيضا فى الإصلاح، ومن هذا المبدأ نروى قصتنا التى هى من الواقع، ليس فيها شىء من الخيال الخصب لعميد الأدب، وليس فيها من السخرية أو التهكم ما يجعل القارئ يفكر فى تفسير ما نقصده، فمكان قصتنا معروف، هو إحدى الدول البترولية فى أمريكا اللاتينية، وزمانها محدد، فى السبعينيات من القرن الماضى.
من المعروف أن الطفرة النفطية التى حدثت بعد حرب أكتوبر 73 والتى حققها جيش مصر العظيم، فاجأت بعض الدول البترولية فى العالم، فلم يكن مواطنو هذه الدول مستعدين لاستقبال هذه الطفرة الاقتصادية التى كان لها تأثير كبير على سلوكياتهم.. حدث أن أصيبت إحدى هذه الدول بهجمة من الفئران والجرذان، نشرت الرعب بين المواطنين، فهاجمت الأطفال وأكلت أطرافهم وأرهبت الكبار فى بيوتهم، ولم تعد القطط تستطيع أن تهاجمها لكثرتها ولنموها غير الطبيعى، فقد كانت تتغذى على فضلات الطعام الكبيرة والثرية فى محتوياتها التى كانوا يحصلون عليها من صناديق الزبالة فى الشوارع، فما كان من الحكومة إلا أن سعت للبحث عن حل جذرى لهذه المشكلة.
استدعت الحكومة أكبر شركة عالمية لمكافحة القوارض، لها باع كبير فى هذا الشأن، وضعت خطة لعملية شاملة للقضاء على هذا الوباء الذى أصبح يهدد صحة وأمان الجميع، كانت الجرذان أشبه بجماعات إرهابية، فجاءت الشركة بأمهر المتخصصين، ومعهم أحدث المعدات والتقنيات، وأعلنوا حربا غاشمة على الجرذان، وبالفعل نجحت الشركة فى القضاء على الجرذان المتوحشة فى أقل من ثلاثة أشهر، وأعلنت الحكومة والشركة انتصارهما المبين، وعمت الفرحة الجميع.
ولكن فوجئ الجميع بظاهرة غريبة لم تطرأ على بال أحد، حدث أن ظهر جيل جديد من الفئران، الصغيرة جدا فى حجمها، وقد انتشرت فى كل البيوت، وبدأ المواطنون يجدونها فى ثنايا ملابسهم، وفى جيوب أثوابهم، وفى الدواليب وفى المطابخ... أثار هذا الأمر الذعر من جديد، وأحس الجميع بأن الحرب التى أقاموها ضد الجرذان لم تستطع القضاء التام على الجرذان! فبدءوا يفكرون فى الأسباب وراء ظهور هذه الظاهرة الغريبة والمفزعة، وجدوا أن القضاء على أى ظاهرة تخريبية لا تستطيع أى قوة أيا كانت ــ غاشمة أو مفرطة ــ أن تقضى عليها قضاء تاما، وأن أى ظاهرة سيئة تصيب المجتمع لا يكفى محاربتها بالقوة فقط!
***
استدعت الحكومة من جديد كل المسئولين والعلماء والمتخصصين لدراسة الظاهرة وكيفية معالجتها، وأيقن الجميع بعد الفحص والتفحص أن معالجة الأسباب أهم من معالجة النتائج، فكانت أولى التوصيات الاهتمام بتكوين الفرد وتسليحه ليس بالسلاح وبالمواد القاتلة للقوارض، ولكن بالعلم الذى هو الوسيلة الأهم، وبالتوعية الإعلامية الجيدة، وأن يتعلم المواطن أن الإسراف والبذخ من شيم الجهل، والاعتدال والاقتصاد من شيم العقل.
وهكذا يتضح لنا أن القوة وحدها لا تصنع السلام، ولا تقضى على إرهاب أو فساد، وأن الإصلاح يبدأ بإصلاح الذات البشرية، والعمل على تحصينها بالعلم وبالتوعية الإعلامية المُحترفة. إن أى أمة لا يمكنها أن تتقدم إلا ــ أولا ــ إذا وضعت الرجل المناسب فى المكان المناسب بعيدا عن أهل الثقة؛ وثانيا إذا أطلقت الحريات، وتقبلت الاختلاف فى الرأى، وتعلمت من تجاربها وتجارب الآخرين، وشارك المحكومون حُكامهم فى الحكم، لأن القهر وكبت الحريات وإلغاء الآخر وتطويع القانون لا يبنى دولة قوية تستطيع أن تواجه تحديات الحاضر والمستقبل.
إن ثورة 23 يوليو لم تستكمل أهدافها لأنها قَيدت الحريات، فوقعت نكسة 67، وثورة 25 يناير سُرقت وأمسكت بها سلطة كفرت الآخر، وعلى ثورة 30 يونيو أن تعى دروس الماضى.
حمى الله الوطن، ونصر جيشنا وقائده فى معركته ضد الإرهاب، وأعان حكومتنا على إصلاح المواطن بالعلم الجيد وبالإعلام الرصين.