فراعنة من؟.. أربعة عوامل حول علم المصريات
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 11 مارس 2025 - 10:45 م
بتوقيت القاهرة
نستكمل اليوم رحلتنا التى بدأت فى المقال السابق عن الكتاب الذى صدر عن دار نشر جامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة فى عام 2002. والكتاب غامض فى عنوانه، بالغ الأهمية فى مضمونه، للمؤرخ الأمريكى دونالد مالكولم ريد وقد نقله للعربية المؤرخ الراحل د. رءوف عباس، وصدر عام 2005 ضمن إصدارات المشروع القومى للترجمة. ونتناول اليوم العوامل الأربعة التى أحاطت بتأسيس علم المصريات.
• المعارض الدولية
يربط المؤلف بين اشتراك مصر فى المعارض الدولية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ورواج حركة السياحة الأوروبية والأمريكية المتجهة إلى مصر لمشاهدة الآثار المصرية، فقد جاء اشتراك مصر فى «المعرض الصناعى الدولى الكبير» الذى أقيم فى لندن عام 1851 بجناح صمم على الطراز الفرعونى، مثيرًا لاهتمام الأوروبيين والأمريكيين الذين جاءوا لزيارة أول معرض دولى يقام فى العالم، وبهرتهم مظاهر الحضارة المصرية القديمة التى عبر عنها الجناح المصرى، وحدث نفس الأثر عندما اشتركت مصر فى «المعرض الدولى» الذى أقيم فى باريس عام 1855، وكذلك عام 1867، وخاصة أن المعرض الأخير شهد جناحا مصريا متميزا، عبر عن التراث المصرى القديم ببعديه الفرعونى والإسلامى، وقدم صورة مغايرة لقطاع أوسع من الأوروبيين بعد أن كان قدوم الأجانب إلى مصر قاصرا على الرحالة والمغامرين وأعضاء البعثات التى جاءت إلى مصر بقصد جمع الآثار للاتجار بها فى أوروبا أو لحساب المتاحف الأوروبية.
• توماس كوك وولده!
يبين المؤلف ويلخص المترجم فى مقدمته للكتاب أنه فى النصف الثانى من القرن 19 ازدهرت حركة السياحة الأوروبية الخارجية، حيث نضجت مرحلة الرأسمالية الصناعية، واتسع نطاق الطبقة الوسطى ذات الدخول الكبيرة، وزاد ميلها إلى الاستمتاع بجانب من فائض مدخراتها فى السياحة الخارجية، وخاصة زيارة مصر وفلسطين؛ حيث مهد الحضارة القديمة ومسرح الأحداث التى سجلها الكتاب المقدس.
شهدت مصر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر قدوم الأفواج السياحية التى نظمها بيت سياحى بريطانى؛ ما لبث أن اكتسب شهرة عالمية باعتباره مشروعًا يعرفه العالم فى هذا المجال أى «توماس كوك وولده»، الذى بدأ نشاطه عام 1841 بتنظيم رحلات داخلية بالقطار من وسط إنجلترا إلى لندن، واتسع نشاطه مع إقامة «المعرض الصناعى الكبير» عام 1851، فزادت رحلاته الداخلية إلى لندن لمشاهدة المعرض، ثم نظم رحلات خارجية -لأول مرة- لزيارة معرض باريس عام 1855، وكذلك رحلات لزيارة جبال الألب وإيطاليا علاوة على تنظيم رحلات متعددة إلى مصر.
• أدلة السفر والرسم والتصوير!
ويرتبط بظاهرة السياحة الخارجية التى كان الاهتمام بالآثار المصرية وراء قيامها وتطورها، ظهور نوع من المطبوعات لم يكن معروفًا من قبل وهو «دليل السائح». وفى ثلاثينيات القرن التاسع عشر طبع أول دليل سائح لمصر باللغة الإنجليزية وآخر بالفرنسية، وازداد العدد فى الستينيات من نفس القرن ليصبح أربعة بالإنجليزية وثمانية بالفرنسية، وظهر أول دليل بالإيطالية فى الستينيات، وبالألمانية فى السبعينيات. وعند نهاية القرن التاسع عشر، بلغ عدد أدلة السائح المنشورة بالإنجليزية 31 دليلاً، وبالفرنسية 15 دليلا، وبالألمانية تسعة، وبالروسية دليلا واحدا، وهكذا صاحب ظاهرة الاهتمام بالسياحة الخارجية التى استقطبتها مصر، ظهور وتطور صناعة الأدلة السياحية المطبوعة التى أصبحت عند نهاية القرن التاسع عشر تتنافس مع بعضها البعض، من حيث تنوع المعلومات التى تهم السائح لا عن الآثار المهمة وحدها وإنما عن مصر ذاتها: تاريخا، ومناخا، ومجتمعا، إلى غير ذلك من معلومات، وكذلك بما تقدمه للسائح من خرائط ورسوم وصور إيضاحية.
وارتبط بظاهرة السياحة الخارجية رواج اللوحات المرسومة باليد لمناظر من مصر كان يرسمها بعض السياح الأوروبيين، ثم يطبعونها ويبيعونها فى بلادهم أو يصدرونها إلى مصر لتباع للسياح. ومع ظهور التصوير الفوتوغرافى عند منتصف القرن التاسع عشر، بدأت تظهر صناعة طبع الصور التى تعبر عن الآثار المصرية ومظاهر الحياة فى مصر، وأتاح ذلك ظهور البطاقات البريدية، Post-Card التى تحمل صورا من مصر، ويرسلها السائح لأصدقائه من مصر بالبريد، وكان ذلك فى التسعينيات من القرن التاسع عشر
• تأسيس المتاحف
لم تكن زيارة المواقع الأثرية وحدها على جدول زيارات الأفواج السياحية الأوروبية والأمريكية التى كان يجلبها «توماس كوك وولده»، إلى مصر، بل كانت زيارة المتاحف بالقاهرة من أهم المواقع التى تتجه إليها أفواج السياح. وفى مقدمة هذه المتاحف ما يلى:
• المتحف المصرى، والذى أقيم عام 1858 فى عهد سعيد باشا على شاطئ النيل عند بولاق وهو الموقع الذى يقع الآن بين مبنى التليفزيون ومبنى وزارة الخارجية على كورنيش النيل، وكان اختيار الموقع يهدف إلى تيسير نقل الآثار التى ترد من الصعيد على المراكب النيلية. واشتمل المبنى على: «مصلحة الانتكخانة» التى كانت تابعة لنظارة الأشغال العمومية؛ وصالات عرض التحف الأثرية؛ ومقر إقامة مدير الآثار. ولكن ما لبث المكان أن ضاق بمقتنياته وزواره، فتم نقل المتحف فى أواخر عهد الخديو إسماعيل إلى قصر الحرملك بالجيزة (وكان يقع على مشارف حديقة الأورمان)، واستمر هناك حتى أقيم له مبنى خاص بميدان الخديو إسماعيل (التحرير الآن) وهو المبنى الحالى الذى افتتح فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى عام 1902 (وبعد أن زادت مقتنياته وحاصره زحام القاهرة استدعت الضرورة نقله إلى المتحف الجديد بجوار الأهرامات فى الربع الأول من القرن الحادى والعشرين).
• المتحف اليونانى الرومانى، جاء الاهتمام بالعصر اليونانى ــ الرومانى من خلال البحث فى تاريخ مدينة الإسكندرية، ويعود إلى العالم المصرى محمود الفلكى فضل ريادة الحفائر الأثرية بالإسكندرية (عام 1865 ــ 1866) بهدف التحقق من بعض مواقع الإسكندرية القديمة، ونشر خريطة الإسكندرية القديمة محققة فى مجلة المجمع العلمى المصرى 1869 مع تقرير بنتائج الحفائر، وقد نشرها أيضًا بكوبنهاجن، وقد استفاد محمود الفلكى من خبرته كمهندس فى تحديد مواقع الحفر وتنفيذه فى وقت لم يكن عرف فيه بعد- الأصول العلمية والفنية لتنفيذ الحفائر الأثرية، ومن ثم كان عمل محمود الفلكى مبتكرًا فى هذا المجال، ولم يتابع أحد بعده الحفر بالإسكندرية بشكل علمى منظم حتى نهاية القرن.
وفى 1891 أسس بعض الإيطاليين بالإسكندرية «الجمعية الإثينية» ونجحت الجمعية فى إقناع المجلس البلدى بالإسكندرية باتخاذ قرار بإنشاء المتحف اليونانى ــ الرومانى ومكتبة البلدية، ووافقت الحكومة على القرار بعد تردد لبعض الوقت، على أن يخضع المتحف لإشراف مصلحة الآثار المصرية، وتتحمل البلدية نفقات إقامته وتأسست «جمعية آثار الإسكندرية» عام 1893 لترعى إقامة المتحف دون أن يكون بين أعضائها مصرى واحد، بل ضمت نخبة الجاليات الأجنبية بالمدينة من المثقفين ورجال الأعمال. ونجحت الجمعية فى إقامة المتحف اليونانى ــ الرومانى عام 1897.
• متحف الفن الإسلامى، يعود الاهتمام بالآثار الإسلامية إلى «لجنة حفظ الآثار العربية» التى شكلها الخديو إسماعيل عام 1869 وتم تفعيلها فى ديسمبر 1881 فى عهد الخديو توفيق. وتولت «لجنة حفظ الآثار العربية» إقامة «متحف الفن العربى» عام 1884 فى فناء مسجد الحاكم بأمر الله. وفى عام 1898 تم رصد اعتماد لبناء مبنى بباب الخلق يضم دار الكتب الخديوية ومتحف الفن العربى معا، حيث تم افتتاح المتحف عام 1903 ويعرف الآن بمتحف الفن الإسلامى.
• المتحف القبطى، جاء الاهتمام بإقامة «المتحف القبطى» بمبادرة شخصية من مرقص سميكة ــ أحد أعيان الأقباط ــ الذى راعه ما تتعرض له التحف القبطية من ضياع، فأخذ على عاتقه مهمة جمعها والدعوة لإقامة متحف للفن القبطى للحفاظ عليها. وهو ما تحقق له فى عام 1908 وتم افتتاح المتحف القبطى عام 1914.
كان هذا المقال عرضا موجزا للمقدمة التى كتبها د. رءوف عباس فى ترجمته لكتاب «فراعنة من؟»، ونأمل فى مقالات مقبلة أن نعرض لكل مسألة من هذه المسائل على حدة لأهميتها فى فهم تطور علم المصريات وعلاقته بالمسارين الوطنى والإمبريالى.