تكريم رباب نمر

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 11 مارس 2025 - 10:48 م بتوقيت القاهرة

لفت نظرى كاتبنا الكبير الأستاذ فهمى هويدى إلى أن رحيل فنانة تشكيلية كبيرة مثل رباب نمر لم يلفت انتباه أحد من نقادنا الذين يكتبون فى الفن التشكيلى بصورة دورية ودفعتنى ملاحظاته للحصول على تفسير لهذا التجاهل غير المفهوم.
انتقلت الفنانة إلى رحمة الله، نهاية الشهر الماضى، لكنها لم تجد وداعًا يليق بقيمتها الفنية الرفيعة وباستثناء بيان تقليدى من وزارة الثقافة لم أجد مادة صحفية أو نقدية واحدة تشير إلى تميز أسلوبها، وهى التى تنتمى إلى موجة ثانية من الفنانات جاءت بعد جيل متميز حقًا ضم رائدات، مثل تحية حليم وإنجى أفلاطون وجاذبية سرى.
نالت الفنانة التى تخرجت فى كلية الفنون الجميلة - جامعة الإسكندرية 1963 الكثير من مظاهر التقدير، وهى حاصلة على درجة الأستاذية أيضًا فى الفنون فى أكاديمية سان فرناندو لجامعة مدريد - بإسبانيا لعام 1977، وهى معادلة للدكتوراه التى تمنحها الجامعات المصرية. كما فازت بجائزة الاستحقاق فى التصوير فى المعرض العام لفنانى مصر فى دورتى 1981-1982. وحصلت أيضًا على عدة جوائز دولية، أهمها جائزة تقديرية فى بينالى الشارقة «رسم» لعام 1994، وأيضًا جائزة لجنه التحكيم فى بينالى القاهرة الدولى الثامن.
زاد من درجة حزنى على رحيل هذه الفنانة المتميزة أن الحظ أسعدنى بالجلوس مرتين بينهما 25 عامًا، كانت الأولى فى بدايات عملى الصحفى بدعوة من الصديقة العزيزة سلوى المغربى، التى أدين لها بالكثير مما تعلمته فى هذا المجال.
كنت حريصًا خلال تلك الجلسة على الحصول منها على تفسيرات لأمور كنت أجهلها فى لوحاتها، فقد سألتها الأسئلة البديهية التى تغيب أحيانًا، لكنها تحرم الفنان من تقديم أعماله لمن يراها للمرة الأولى، سألتها عن حضور الصيادين والأطفال والأسماك والنوارس فى لوحاتها فحدثتنى عن ولعها المبكر بحى الأنفوشى فى الإسكندرية الذى ألهم مئات من فنانى مدينتها، معتبرة أن نجاحها فى رسم هؤلاء الصيادين شهادة لهم وليس لها، لأنها تدين بأى نجاح حققته للروح التى بثها شقاء هؤلاء وسعيهم للحصول على الرزق.
أما الجلسة الثانية فكانت قبل 4 سنوات حين جالستها فى ختام ملتقى الأقصر الدولى للتصوير حين تم تكريم زوجها الفنان الكبير مصطفى عبدالمعطى تقديرًا لمسيرته الفنية الرائدة، ولمست بشكل مباشر حجم ما تتمتع به من رقة وجمال متفردين.
خلال تلك الجلسة تناقشنا كثيرًا حول أسلوبها معتبرة أنها كانت أسعد حظًا من غيرها، لأن لوحاتها تزين مؤسسات ومتاحف كثيرة، كما كانت راضية تمام الرضا من التفاعل النقدى مع أعمالها التى تحتشد بعلامات مميزة تتكرر للحد الذى يجعلنا نميز لوحاتها من بين مئات اللوحات، لأنها ذات أسلوب خاص.
فى تناوله لأعمالها كشف الفنان الراحل بيكار عما أسماه بـ(الصخب الصامت) إذ تمتلىء لوحاتها بشىء من الصخب الحركى مبعثه تزاحم الأجسام وتكاتفها فى الحيز الضيق الذى ترسمه.
كما أشار إلى ولعها برسم «وجوه دائرية ملساء دائمًا.. بلا أذن.. كأنها أرغفة مقددة.. والعيون شاخصة فى اندهاش وتساؤل، أما الأجسام فكأنها قصاصات ورق.. مفصلة «كالبترونات» فقدت كثافتها وثقلها المادى.. تنتهى بأذرع ذات زوايا حادة، وكفوف نمطية مثل أسنان المشط».
قالت لى رباب نمر إن لوحاتها التى صنعت شهرتها اعتمدت قبل كل شىء على الأبيض والأسود، وكانت تفضل الخامات والألوان البسيطة، لتعكس تقشف الحياة لدى من ترسمهم لكن فيما بعد تسربت الألوان إلى عوالمها، واتسعت تلك العوالم لتستعمل موتيفات تنتمى إلى الطبقات الحضارية المختلفة فى الإسكندرية، وصار تفاعلها أكبر مع التجارب الفنية التى كانت حولها.
تعددت صور التفاعل والمغامرة لعل أبرزها المغامرة التى خاضتها، وهى جديرة بكل تقدير خاضتها مع المفكر الراحل عبدالوهاب المسيرى، وكان من عشاق أعمالها، فقد رسمت لوحات موازية للترجمة التى قام بها لقصيدة (الملاح القديم) لصمويل تايلور كوليردج نشرت مرفقة بالكتاب فى نسخ رقمية بحجمها الأصلى.
استجابت رباب نمر فى أعمالها لـ(غواية الإسكندرية) شأن آخرين، لكنها صارعت لابتكار أسلوب، وليس فقط لتصوير هذا العالم بالغ الثراء، فالتحدى الحقيقى فى الفن يأتى من الأسلوب وطرق المعالجة، لأن رحلة الفنان تقوم على إيجاد الحلول بدلًا من تكرارها.
أتصور أن التكريم الأهم لرباب نمر لا بد وأن يكون من خلال إتاحة أعمالها فى معرض استعادى تحتضنه قاعة أفق وبعدها يذهب للإسكندرية، ليراه جمهورها هناك، وأظن أن صديقى الفنان وليد قانوش القادم مثلها من الإسكندرية، ومعه الفنان الدكتور على سعيد مدير المراكز الفنية لن يترددا فى فعل ذلك وتكريمها وتكريمنا بهذا المعرض.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved