تدوين «سردية البطولة والإبادة» فى غزة
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 11 مايو 2024 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
(1)
ثمة كتبٍ بعينها، لمؤلفين بأعينهم، يمكنها أن تنتزعك انتزاعًا من أكوام الأوراق والملفات التى تكاد تغرق تحتها بحثًا أو قراءة فى روتين يومى يكاد لا يظهر له فجر أبدًا! ومنذ أكتوبر 2023 ونحن مستغرقون فى متابعة ما يجرى لأهلنا فى غزة، هناك المتابعة الخبرية اليومية «الآنية»، وهناك الرصد «التوثيقى» التسجيلى لما يدور من مواجهات بين المقاومة الفلسطينية، وجيش الاحتلال، والجرائم البشعة التى يرتكبها على مرمى ومسمع العالم كله لحظة بلحظة.
وهناك قلةٌ من المعنيين بقراءة هذه الأحداث قراءة تحليلية نافذة تتجاوز الآنى والتفاصيل إلى ما وراءها من أنساق وأهداف معلنة أو خفية، أو خطط ظاهرة ومخططات سرية، وتأثيراتها فى المستقبل على خريطة الشرق الأوسط وعالمنا العربى والإسلامى فى القلب منه، هؤلاء القلة من الباحثين هم أصحاب الأطر النظرية الكلية، والرؤى المنهجية المنضبطة، والأدوات الإجرائية «التحليلية» الذين يقدمون قراءة تحليلية دقيقة لما يجرى لعل وعسى أن يتنبه أحد ويهتم أحد ويأخذ فى الاعتبار هذه الرؤية العلمية المنهجية. إلى هذه الفئة الأخيرة ينتمى المفكر الكبير والمنظر السوسيولوجى البارز والمحلل السياسى المعروف نبيل عبد الفتاح، الذى قدم جهده المعتبر فى هذه الدائرة بكتابه الصادر أخيرًا «المقاومة والحرية: غزة وسردية البطولة والإبادة»، عن دار ميريت للنشر والتوزيع 2024.
(2)
ودور نبيل عبد الفتاح «الرصدى التحليلى»، إذا جاز التعبير، فى قراءة وتحليل ظواهر السياسة والمجتمع والثقافة فى مصر والعالم العربى، دور مذهل بكل ما تعنيه الكلمة، تعبِّر عنه عشرات الدراسات والمقالات التى كتبها، ويكتبها فى الجرائد والمجلات والمواقع المتخصصة والعامة على السواء. جهد لا يكل ولا يفتر عن متابعة ما يحدث على الأرض وحولنا فى كل مكان من العالم. وتكشف هذه الدراسات عن تبنٍ لموقف يحاول تطوير نفسه دائمًا فى ما يخص قضايا الحداثة والتغيير والديمقراطية والعولمة ومواجهة التطرف والإرهاب، وبنية التيارات الدينية الأصولية المتطرفة… إلخ تلك الظواهر المتداخلة والمعقدة، وعلاقة السياسة بما يجرى فى الحياة العربية كلها.
كل ذلك ينبئ فى الأخير عن متابعةٍ دقيقة دءوب لما يجرى فى مجالات السياسة والثقافة والمجتمع، وما يتفرع منها أو عنها، فى مصر والعالم العربى. وطوال الأشهر الثمانية الماضية، لم يكف نبيل عبد الفتاح بحماسة الشاب وحكمة العمر ونضج التكوين، عن متابعة ما يجرى فى غزة، يقرأ ويتابع ويحلل ويوظف أدواته الإجرائية التى تمرس بها على مدى يزيد على الأربعين عامًا، ورؤيته المنهجية المستمدة من دراسته النظرية للقانون وعلوم اجتماع المعرفة والسياسة والدين، ليكون حصاد ذلك كله هذه القدرة التنظيرية التحليلية العميقة (ربما كانت من أعمق ما طرح الآن على الساحة الفكرية والثقافية) فضلًا على القدرة الاستشرافية لما يمكن أن تئول إليه الأحداث فى المستقبل القريب أو على المدى المتوسط أو فيما أبعد من ذلك.
(3)
ما بين «على سبيل التقديم» و«الخاتمة» يعالج نبيل عبد الفتاح ما أطلق عليه «سردية البطولة والإبادة» تحت عنوان عريض «الحرية والمقاومة»، ينتظم ما يمكن اعتباره خمسة فصول متضامة، تؤطر تحليله الكلى لفعل «المقاومة» الساعى إلى الحرية على أرض غزة التى تجسد عليها وتمجد فيها أقصى آيات البطولة فى مواجهة أبشع جرائم الإبادة. جاء المدخل ليؤسس نظريا لثنائية «البطولة والإبادة»، ليلج بعدها مباشرة فى الفصل الأول بعنوان «ثقافة المقاومة: الشجاعة والحياة فى الموت»، ويؤصل لشرعية المقاومة وثقافتها ضد الاقتلاع، فضلا على فض الاشتباك المفاهيمى القائم فى موضوع «الدين بين المقاومة والاحتلال».
وينتقل فى الفصل الثانى من المفاهيمى التأسيسى المجرد إلى الحالة العربية فى «المقاومة والعقل العربى» من واقع المقاربة التاريخية للحرب وأزمة العقل العربى الجريح، ثم عودة الوعى بالقضية الفلسطينية، ودراسة حالة للوعى النقدى العربى المعاصر، والعقل السياسى واللغة القانونية الدولية، وحرب الإبادة ومرايا الانكشاف العربى، وأخيرًا «هذا ما قالته غزة وقصيدة الحياة فى الموت». ويأتى الفصل الثالث ليكشف مرايا التناقضات الغائرة فى الغرب المراوغ، عبر تفكيك ما يسميه «المعايير المزدوجة» و«غطرسة القوة»، ويكشف عبر تحليل معمق ومتماسك عن التأزم العميق الذى تغلغل فى بنية وتكوين التنظيم الدولى فيما بعد الحرب الباردة. وإذا كانت نقطة البدء فى مقاربة فعل المقاومة ما يدور على الأرض من حروبٍ ومواجهات ومعارك، فثمة حروب أخرى «سجالية» الطابع، يطلق عليها «الحروب اللغوية والخطابية» التى خصص لها الفصل الرابع من كتابه.
(4)
ويأتى الفصل الخامس والأخير ليرصد المآلات القائمة بين السيولة والغموض والتواطؤات والاضطراب فى المشهد الراهن، منذ اندلاع طوفان الأقصى، وضده السيوف الحديدية، متسائلا عن مصير مشروع الدولة الفلسطينية بين الاحتمال والإمكان وأخيرا يختتم الكتاب بتمجيد ثنائية «الحرية والاستقلال» عقب انقشاع الغيوم والهموم والضباب.