أستاذتى نيفين مسعد!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 12 مايو 2024 - 11:21 ص بتوقيت القاهرة

بعد أن يبلغ المرء الأربعين من عمره يبدأ فى النظر للحياة بشكل مختلف، ربما أكثر حكمة وأكثر عمقا عن ذى قبل! بعد أن بلغت الأربعين من عمرى بدأت بعض الأمور التى كانت بديهية قبل ذلك تتغير كثيرا فى نظرى! تقول الآية القرآنية رقم ٢٢ فى صورة ق «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»، ورغم أن الآية تتحدث تحديدا عن يوم القيامة الذى يدرك فيه الإنسان بوضوح أمورا لم يكن يلتفت لها أو يراها جيدا ثم ينقشع الغبار فتظهر أمامه جلية، إلا أنه وفى تقديرى قد تنطبق الآية الكريمة أيضا على مراحل مختلفة من الحياة الدنيا، حينما لا ندرك أمورا فى مرحلة معينة، ثم تنكشف أمامنا جلية فى مرحلة تالية ونتعجب كيف لم ندركها فى وقتها!.


أمور مثل العمر، الصحة، المرض، السعادة، الألم، الأولاد، الحب، الكره، الأمل، الله.. إلخ تغيرت رؤيتى لها مؤخرا، لكن لا شىء أدركته بوضوح شديد مثلما أدركت مؤخرا قيمة الأشخاص وقيمة الأوقات وقيمة الأماكن!.

حينما كنت أصغر سنا كنت أعتقد أن الحياة تتميز بقدر من الثبات النسبى، لكن مع الوقت اكتشفت أن قانون الحياة هو التغير السريع، تتغير الأماكن التى نعيش فيها والأشخاص الذين نقترب منهم، وطبيعة الأوقات التى نقضيها معهم بشكل سريع ولا يتوقف! حتى أقرب الناس؛ الأمهات والآباء، والإخوة والأخوات، والأبناء والبنات، الأزواج والزوجات، ورفقاء الحياة، تتغير مساحات القرب الجغرافى والنفسى منهم طوال الوقت! الأمهات والآباء يشيخون، والبنات والأبناء يكبرون، والأخوة والأخوات يسافرون، والأزواج يغادرن أو يبتعدون، وتتغير الأماكن وظروف الرزق، وطبيعة وشكل الجسم للجميع مع الوقت، ومعها تتغير النفسيات والمشاعر والحالة العقلية والعاطفية والمالية، فتأخذنا مرحلة إلى أخرى، ثم إلى ثالثة ورابعة، وهكذا هى سنن الحياة وأقدارها!.

لكن وفى ظل هذه المعمعة الحياتية الملحمية قد يرزقك القدر ببعض الناس الذين يغيرون من حياتك ويصقلون من خبراتك والأهم أن يبقوا دائما بالقرب منك مهما بعدت المسافات الجغرافية أو المواقف الفكرية والسياسية والمهنية، وقدر رزقنى الله بأستاذتى القديرة الدكتورة نيفين مسعد كأحد هؤلاء الذين جاءوا فى طريقى للحياة فتغيرت حياتى وتطورت بفضلهم، ثم ورغم بعد المسافات بقوا فى حياتى وبالقرب منى، ناصحين، وداعمين، فأصبحت حياتى أفضل بفضلهم!.

• • •

قابلت الدكتورة نيفين مسعد فى قاعات الدراسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام ٢٠٠٠، كانت تدرس لى مقررا عن النظم السياسية العربية، ورغم أن المحاضرة كانت تعج بنحو ٤٠٠ طالب وطالبة، إلا أن الدكتورة نيفين كانت قادرة على جعل المحاضرة تشاركية، حيث يشترك الطلاب فى المناقشات والعروض! مرت الأيام وأصبحت الآن أستاذا فى إحدى الجامعات الأمريكية، وأعلم أن جعل المحاضرة تشاركية فى حضور ٥٠ طالبا وطالبة هو أمر صعب للغاية، ولا أعلم حتى الآن، كيف تمكنت د. نيفين من إدارة محاضرة تشاركية وقتها فى حضور هذا العدد الكبير من الطلاب، أخذا فى الاعتبار أن المقرر كان هاما بالنسبة لنا كطلاب وخاصة وأنه جاء مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، فكانت الساعة ونصف -وقت المحاضرة- بمثابة ندوة تثقيفية وورشة عمل لعرض الأفكار والمشاعر والمعلومات بخصوص القضايا العربية المختلفة وفى القلب منها بالطبع قضية القومية العربية والقضية الفلسطينية!.

فى هذه المحاضرة عهدت إلى أستاذتى بأن أقوم بعرض لزملائى عن عدد من الدساتير العربية، فقدمت عرضا للدستور اليمنى والدستور المصرى، وكانت هذه هى المرة الأولى التى أقف فيها أمام كل هذا العدد من الطلاب للشرح، وربما كانت البداية لانبهارى بدور أساتذة الجامعة وحبى للمحاضرات والتدريس! كما كانت المرة الأولى التى أقرأ فيها بعمق عن الدساتير وأقوم بالمقارنة بينها كأحد الوثائق الهامة فى فهم النظام السياسى. وحتى اللحظة كلما أقوم بتدريس مقرر لطلابى عن النظم العربية أو الإسلامية، أعتمد نفس هذا الأسلوب الذى علمتنى إياه أستاذتى نيفين مسعد؛ أى أقوم بإمداد طلابى بنسخ من الدساتير المختلفة للدول التى نقوم بدراستها، ونعقد مقارنة بين الإطار الدستورى والقانونى والواقع السياسى لهذه الدول، وهو أسلوب مازال يحصد إعجاب طلابى ويمدهم بالكثير من المعلومات لفهم واقع هذه النظم السياسية!.


• • •


الدكتورة نيفين من هؤلاء الأساتذة الذين يحرصون أيضا على امتداد علاقتهم بالطلبة خارج قاعات الدرس، أتذكر جيدا كيف أنها اختارتنى ومعى مجموعة من الزملاء والزميلات لزيارة عدد من المصابين الفلسطينيين بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قمنا بشراء الورود وذهبنا إلى مستشفى معهد ناصر والذى خصص وقتها جناحا لاستقبال أبناء الشعب الفلسطينى، قمنا بعد بعض التنسيق بزيارة عدد من المصابين والحديث معهم، صحيح كانت زيارة قصيرة، لكن كان لها عظيم الأثر فى إثقال شعور التضامن لدينا نحن الطلاب بينما نرى الآلة العسكرية الإسرائيلية تدك أبناء الشعب الأعزل!.

بعد تخرجى من الكلية فى عام ٢٠٠١، وبينما كنت أنتظر الحصول على الدرجة الوظيفية من وزارة المالية كى يتم تعينى معيدا فى قسم العلوم السياسية بالكلية، اتصلت بى الدكتورة نيفين وعرضت على العمل معها كمساعد باحث فى معهد البحوث والدراسات العربية، وبالفعل ولمدة عامين، عملت معها ومع الدكتور أحمد يوسف فى عدد من المشاريع البحثية التى مولتها جامعة الدول العربية وكانت بالنسبة لى خبرة عظيمة للاحتكاك بمجتمع أكاديمى وبحثى عربى بما فى ذلك من خبرات تعدت قاعات الدروس النظرية!.

• • •

غادرت جامعة القاهرة وعدت إليها مرات ومهما بعدت المسافات ظلت علاقتى بالدكتورة نيفين مسعد مميزة ودافئة، ومع كل زيارة إلى القاهرة لابد من مقابلتها، وفى الصيف الماضى قابلتها مع أصدقائى الأعزاء رانيا زادة وجورج فهمى وقام صديقنا جورج بالعزف على البيانو فى جلسة دافئة أبحث عنها دائما فى زياراتى إلى القاهرة.


كانت من ضمن أمنياتى الكثيرة أن أقوم بالتدريس مع الدكتورة نيفين مسعد فى جامعة القاهرة لكن لم يسعدنى الحظ بتحقيق تلك الأمنية، ولكن لا شك أن التواصل البحثى والأكاديمى وفوق كل ذلك الإنسانى لم ولن يتوقف أبدا! أعلم بالمحنة المرضية التى تمر بها أستاذتى العزيزة، وهى تكتب عنها بمنتهى الشجاعة وبكلمات عذبة وحكيمة ليست غريبة عليها. صحيح أنها تجربة صعبة ولا يمكن لأحد أن يشعر بظروف التجربة غير الذى يمر بها، لكن أعلم أن أستاذتى العزيزة تعلم أننا جميعا معها وندعو لها، وها هى أيام الصيف تقترب، ومعها تقترب زيارتى السنوية للقاهرة وسنطلب من صديقنا العزيز جورج فهمى العزف لنا على البيانو مجددا .

 

مدير برنامج التعاون الدبلوماسى الأمريكى الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved