الجماهير
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 11 يونيو 2014 - 11:12 ص
بتوقيت القاهرة
«سوف يعودون إلى الميادين مرة بل مرات. لن ينسوا. عرفوا أنه على هذا النحو تبنى الأمم. تبنى على الأساطير والعواطف وسير البطولة. هؤلاء الذين قضوا فى الميدان أياما وشهورا سوف تتلى حكاياتهم مرارا وتكرارا، يتلونها بأنفسهم أو يتلوها شهود وأبناء وأحفاد. ستبقى الذكرى حية، حتى وأكثرهم يعلمون أن ما حدث لهم وبسببهم لا يعنى أن الجماهير انتصرت. على العكس. هذه الجماهير ذاتها على وشك أن تتعلم أن الابتهاج بصوتها وقوتها ومسيراتها وأغانيها وأناشيدها ولافتاتها ورسوماتها، لم يكن أكثر من فرحة وانبهار بحلم وربما وهم كادت تحققه بنفسها ولنفسها. الحلم قد يبقى حلما أما الوهم فسوف يتعب إن آجلا أو عاجلا وقد يذوى. ومع ذلك، لن ينسوا، وسوف يعودون».
•••
السطور السابقة صياغة تكاد تكون طبق الأصل من مقال للكاتبة الأمريكية آن أبلبوم، تحت عنوان «حكمة الجماهير: لماذا يجرى تضخيم أهمية الثورات الشعبية». تتحدث السيدة آن عن الثورة الأوكرانية باعتبارها المثال الأبرز على أن «حكمة الجماهير» خرافة ابتدعها قادة ديماجوجيون وحكام شعبويون. وأظن أنها لا تبتعد كثيرا عما سبق أن كتبه جوستاف لوبون عالم الاجتماع الشهير فى كتابه الصادر عام 1895 بعنوان «الجماهير.. دراسة فى العقل الشعبى» وهو الذى صار مرجعا استفاد منه موسولينى وغيره من القادة الأوروبيين الذين شغفوا بتحريك الجماهير لخدمة أغراضهم وشهواتهم فى الحكم.
•••
تعترف الكاتبة الأمريكية بأهمية القوة العاطفية المتدفقة التى تبلورها وتطلقها الاحتجاجات الشعبية. هذه حقيقة نعرفها فى مباريات كرة القدم وحفلات الغناء فى الساحات المفتوحة. عرفناها أيضا فى الصرخة الجماعية التى تصدرها حناجر عشرات الألوف من الجماهير المحتشدة فى ميدان فى لحظة انبهار أو حماسة أو غضب. شعرنا بها تهزنا حتى الأعماق، خاصة أن بيننا من كان يدرك أن أكثر الثوار المقيمين فى أنحاء الميدان، أو المتدفقين فى المسيرات، قد غلبت عليهم ثقة مطلقة فى أنهم، فى تلك اللحظات تحديدا، كانوا يدخلون تغييرا جوهريا فى مسار التاريخ.
لا شك عندى فى أن أغلب السياسيين واعون بالطاقة التى يمكن أن يولدها اجتماع الجماهير، أى اجتماع بأى حجم وفى أى مكان. هؤلاء السياسيون يحبون هذه الاجتماعات ويكرهونها، يحبونها عندما يكون لهم يد فى تنظيمها وإطلاقها وفضها، ويكرهونها عندما تخرج من أيديهم أو عندما يبادر بها غيرهم أو عندما يخرج الناس طواعية وبدون توجيه أو إعداد.
تقول السيدة آن، وهى على حق فى هذا الذى تقوله، إنه لا ضمان أكيد أن تثمر الثورة الجماهيرية آثارا إيجابية، بل إنه ليس حقيقة أن كل الثورات الجماهيرية كانت تقدمية أو نشبت لأغراض نبيلة. ثورات جماهيرية عديدة فى أمريكا اللاتينية جاءت إلى الحكم بشخصيات دكتاتورية. ثورات أخرى استبدلت حكما فاسدا ومستبدا بفوضى عارمة، مثل ليبيا. ثورات أخرى انتهت إلى عنف ودمار وإرهاب كما فى سوريا. فثورة أو أكثر استبدلت جناحا فى نخبة حاكمة بجناح آخر فى النخبة نفسها وهو ما حدث فى بعض دول أوروبا الشرقية. وفى حالات معروفة، منها إيران، قامت ثورة من أجل الحريات والديمقراطية والكرامة وانتهت بنظام حكم لا يهتم كثيرا بجدوى الحريات السياسية والشخصية، بمعنى أنها ليست بين أولوياته.
خرجت الجماهير فى ثايلاند وتركيا ومصر وأسقطت حكومات منتخبة ديمقراطيا. أسقطتها لأن الحكام فشلوا أو فسدوا أو تألهوا. حدث فى كثير من الثورات أن اعتقدت الجماهير الثائرة أنها بخروجها إلى ميادين أو إلى شوارع حققت الديمقراطية. يقابل هذا الاعتقاد تصور الحكام الجدد الذين تقلدوا مناصب الحكم فى انتخابات نزيهة أعقبت حالة ثورية أن الصناديق تغنى عن الجماهير. إلا أنه بات واضحا لكل هؤلاء أن «الجماهير الثورية» ترفض أن تقتنع بأن دورها انتهى ودور الصناديق بدأ، ولن تقتنع حتى ترى الصندوق وقد نجح فى تغيير مسار التاريخ، حلمها فى الثورة.
فى واقع الحال، لن يكون سهلا إقناع جماهير جربت الثورة ولو لفترات متقطعة أن صندوقا خشبيا أو زجاجيا هو وحده، صاحب الشرعية ومالك القوة السياسية الحقيقية، وليس «الجماهير» التى جاءت به وحملته على أكتافها وفرضته على المؤسسات الحاكمة.
•••
صحيح ما تقوله الكاتبة الأمريكية عن أن للجماهير لحظتها. لقد مرت شعوب كثيرة بتجارب ثورية عديدة، هى فى عمر الوطن لحظة. هى لحظة لأن «الجماهير» لا تتحمل لمدة طويلة مشاق وأعباء ثورة مستمرة وحشد متواصل وحماسة مستعرة، ولكنها كما تقول آن وغيرها، اللحظة التى لا يمكن للشعوب أن تنساها ولن يتوقف الحنين إليها، لأنها اللحظة التى عاشت فيها أمجد أيامها وانتشت بأعظم أوهامها.