الجواب على تراجعات الماضى

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 11 يونيو 2025 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

أما وأننا نعيش مرحلة التباعد بين شتّى أقطار الوطن العربى، والتوجه نحو خارج هذا الوطن لبناء شتّى أنواع التنسيقيات والتضامنيّات فى كل أنواع الحقول، فإنه يجدر أن ننبّه هذا الجيل إلى ما قادت إليه بعض التراجعات الماضية إلى ما نراه أمامنا من أوضاع الحاضر العربى التباعدية المحزنة المأساوية.

فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى طرح بعضنا، وزراء التربية العرب، فى اجتماعات المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة (أليكسو)، اقتراح التوحيد التدريجى لمناهج بعض المواد، التى تدرس فى المراحل الابتدائية والإعدادية ومن ثم الثانوية، من مثل اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات وعلوم الفيزياء والكيمياء. وكان منطلقنا أمران:

فأولًا لا يمكن أن تكون هناك خلافات حول هذه المواد إذا وضعت من قبل لجان من إخصائييّن مناهج من كل الأقطار العربية. الخلافات قد تكون حول مواد من مثل التاريخ أو الاجتماعيات، وهذه يمكن ترك تأليفها على مستوى كل قطر على حدة.

وثانيًا: إن تأليف كتب المواد الدراسية لمئات الألوف من الطلاب العرب بدلًا من بضع ألوف، سيوفر أموالًا كبيرة يمكن الاستفادة منها فى إجراء الدراسات والبحوث المعمّقة حول مواضيع تلك الكتب الدراسية وبالتالى رفع مستواها وقيمتها المعرفية.

فى تلك السنوات اقترح بعضنا أيضًا توحيد مشاريع مكافحة الأمية الوطنية، كتبًا وبرامج تلفزيونية ومواد تثقيف للكبار، توحيدها فى مشروع عربى واحد تحت إشراف جهة عربية واحدة.

كان الحماس لتنفيذ كلا الاقتراحين التوحيديين العروبيّين التضامنيّين موجودًا، لكن التغيرات فى أشخاص المسئولين عن وزارات التربية وبالتالى قصر النظر أو ضعف إرادة الفعل عند البعض أو حتى المصالح الانتهازية والخوف من خسران مكاسب سابقة لهذه الجماعة أو تلك أدت إلى تراجع، ومن ثم موت المقترحين، ومعهما تكلّس الخطوات التوحيدية العربية المشتركة فى حقل التعليم والتربية البالغ الأهمية فى المشروع النهضوى العروبى الواحد.

دعنا نأخذ مثالاً آخر. عبر الخمسين سنة الماضية إتخذت إما مجموعة من الأقطار العربية، كدول مجلس التعاون الخليجى أو دول الاتحاد المغاربى، وإما مجموعة الأقطار العربية كلها، كما حدث فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى فى اجتماع عربى حاشد فى الأردن، اتخذت تلك المجموعات قرارات بقيام وحدة اقتصادية إقليمية أو قومية ممائلة للسوق الأوروبية المشتركة. إلى اليوم، وبالرغم من كل التمنيات والتصريحات، لم يتحقق ولا مشروع واحد من تلك المشاريع وبقيت تلك الآمال القومية الوحدوية حبيسة الأدراج مع ملفات مشاريع أخرى من مثل قيام صناعة حربية عربية مشتركة أو قيام قوة أمنية عربية واحدة مشتركة.

لا أذكر أننى سمعت صوتًا عربيًا رسميًا واحدًا يحتجّ بصوت عالٍ معبّر عن جماهير هذه الأمة على ما وصلت إليه مؤسسة الجامعة العربية التى كانت فى يوم ما تفجّر أحلام وآمال وأهداف هذه الأمة وكانت ملئ العين والبصر كلما اجتمعت لتتحدّى الأعداء ولتضع الخطوط الحمر ولترفع لاءات الأمة الشهيرة.

الآن هناك لغط كثير حول إصلاح هذه المؤسسة الوحدوية القومية المشتركة وإخراجها من القبر الذى أراد البعض دفنها فى أعماقه. هذا لغط مرحّب به، وآن أوان تفعيله فى أرض الواقع العربى لإخراج ذلك الواقع من السّقم الذى أصابه.

لكننا نريدها محاولة إصلاح وتقوية وتغيير عميقة صادقة تتخطى المناكفات والمنافسات العبثية حول من يقودها، وتجعل شعارها الوحيد كفاءة من يريد أن يقود هذا الجهد الذى سيكون رائعاً فيما لو تحقق.

من يريد أن يقود ذلك الجهد يحتاج منذ الآن إلى أن يستعد لحمل الجزء الأكبر من المسئوليات والتضحيات لإعداد الأمة لمواجهة هجمة الخارج الخبيثة لتجزأة الأمة وتفتيت كل قطر ووضع كل المصاعب لعرقلة كل خطوة توحيدية أو حتى تكاملية فيما بين أقطار الوطن العربي، ولمواجهة أشرس هجوم استعمارى وصهيونى على هوية الأمة وذاكرتها الجميعة وتاريخها المشترك، بل وحتى على سلوكياتها وقيمها الأخلاقية والدينية. ومع الأسف هناك فى الداخل من يعين على ذلك.

إنها هجمة كبرى تحتاج لإرادة إصلاحية كبرى للمؤسسة العربية المشتركة الباقية: مؤسسة الجامعة العربية. ليتفضّل من يملك تلك الإرادة ليقود ويتقدم مصارعة الأمواج العاتية. إنها مسئولية وليست تشريفا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved