اخترت لكل شخص قابلته فى الحفل سؤالا مختلفا. سألت صديقة أعرف حرصها على استكمال برنامج الحمية الذى أنفقت عليه مالا وفيرا وبذلت فى سبيله تضحيات غير قليلة، سألتها: إن كان الألم شديدا عندما ضعفت فاستجابت لرغبة عارمة فى قضمة صغيرة من حلوى زينت مائدة الاحتفال؟ تركتها لأسأل ضيفة الشرف إن لم تكن الدمعة المترقرقة فى عينها أفشت حاجتها وهى تسمع الكلمات الدافئة التى نطق بها فى تأثر وبعاطفة ملحوظة رئيسها وهو يودعها؟ ألم تشعر بغصة فى حلقها وألم فى صدرها حين احتضنها بعد أن سلمها الهدية التذكارية؟ تركتها مرتبكة وذهبت إلى رئيسها. هنأته على فصاحته فى التعبير عن مشاعر الجميع حيال رحيل زميلتهم. ربت على كتفه وسألته هامسا وأنا العارف بما بينهما: إن كان لم يشعر وهو يحتضنها توديعا بما يحرضه على الاحتفاظ بها بين ذراعيه والطلب إليها أمام كل الناس ألا ترحل؟
***
أنت، يا صديقى العزيز.. سمعتك تستعطف نادل المطعم ليسمح لك بتدخين سيجارة. كنت مستعدا لكسر القانون وكسرته فعلا، نسيت فى اشتياقك للسيجارة أنك رجل قانون. ألم تخطر لك بعد فكرة أن تجلس مع سيجارتك وتطلب منها الإفراج عنك والسماح بعودتك إلى منصتك منتصب القامة سليما وقويا وعادلا قبل فوات الأوان؟ هل قررت ماذا أنت فاعل لو استهانت السيجارة بطلبك كما استهانت بطلبات سابقة وعادت لتغويك من علبتها، تخرج منها فى وداعة لتداعب أصابعك قبل أن تتسلل إلى شفتيك وأنت ما زلت ترجوها وتتوسل؟ يا ألله ما أشقاك! ويا لعمرى ما أقواها!.
وأنت يا صغيرتى. رأيتك تدورين حول المسئول الكبير تستدرجينه بالحوار ثم بالحصار نحو ركن قصى فى صالة الحفل. هناك وعلى مقربة من الركن كنت أجلس على أريكة أستمع إلى صديق يحدثنى. سكت فجأة وأشار لى بأن أنصت جيدا إلى حديثكما أنت والمسئول فى الركن الذى حوصر فيه. أنا الذى لا أتعمد التنصت بل أحرمه على غيرى فى بيتى ومكتبى تجاوبت مع صديقى، تفاعلت معه إنسانيا أو مجاملة وربما فضولا مثله، فأنصتنا معا. سمعناك يا صغيرتى تكيلين المديح للمسئول على كفاءته وحسن سمعته قبل أن تنتقلى إلى الثناء على ذوقه وأناقته، وبعد قليل كنت تتحدثين عن صنف الرجال الذين يروقون لك، هم دائما وأبدا من ذوى شعر تسلل إليه الشيب، وفى النهاية وصلت إلى مرادك، سمعناك تطلبين منه التوصية عند الوزير لترقية ونقل ومنافع أخرى..
***
انضم إلينا زميل يكتب فى صحيفة كبرى. سألته عن صحة نميمة متداولة. أجاب بأنه استعار فعلا فقرة من كتاب أو لعلها من مقال زميل ونسى أن يشير إلى هذه الاستعارة عند نشرها. قلت، ولكن النميمة تزعم أنك كدت تدمن ارتكاب هذا الخطأ الذى هو فى حكم «الجريمة» المهنية؟ كذب حين قال إنه مثل آلاف غيره من الكتاب يقتبسون ويحتفظون بما اقتبسوه لحين حاجة فينشرونه ناسين مصدره. مدمن السيجارة فاقد لبعض إرادته ولا يكذب على الناس أو على نفسه، ولكن المقتبس بدون استئذان إنما يفعل ذلك بإرادة كاملة. ثم لماذا تستفردون بالصحفيين، أتعرفون عدد الرسائل التى حصلت على شهادة الدكتوراه فى الجامعات المصرية ولم يكتبها أصحابها وتغافل عنها أو لم يقرأها الأساتذة الممتحنون؟.
***
سمعت أو قرأت أن فيلسوفا، وأظن أنه «كانْت»، قال أو كتب أن قيمة الأخلاق هى فى الجهد الذى بذل فيها. كعادتى تحريت الأمر. عدت إلى واحدة من أحب هواياتى إلى نفسى وهى مراقبة الأطفال. رأيت الطفل يمد يده إلى علب الحلوى وعينه على أمه. الأم تنهى الطفل عن المبالغة فى أكل الحلوى والطفل ضعيف أمام إغراء الحلوى الملقاة على المائدة حرة وميسرة. ربما لو لم توجد الحلوى على المائدة أمام الطفل ما تذكرها وسال لعابه وضعفت إرادته إلى حد استسلامه لتحريض صريح للتمرد. تردد الطفل ثم التفاته نحو أمه للتأكد من أنها غير منتبهة هو فى الحقيقة جهد مقاومة يحمد عليه. أتصور أنه فكر على النحو التالى: «أريد قطعة الحلوى ولكنى تعهدت لأمى بأن أستأذن وإذا استأذنت، كما يحدث كثيرا، فلن أحصل عليها. الرغبة شديدة وتزداد. لن أنتظر فقد تنتبه أمى. سأمد يدى وفى كل الأحوال الحصول عليها يستحق الجهد الذى بذل فيه». إنها قصة الغواية كما فى الطبيعة. لعلها، وأقصد الغواية عند الأطفال، لا تختلف فى جوهرها عن «الغواية المقدسة» أو «الغواية الأصلية»، غواية الشجرة والحية والتفاحة وحواء وآدم والسقوط من الجنة. لعلها أيضا تختلف فى الجوهر كما فى الشكل ودرجة البراءة عن الغواية عند الكبار المتضمنة مثلا فى حكاية يوسف وامرأة العزيز.
كم من زوجة حاولت تنبيه زوجها إلى أن إهماله لها أو تفضيله آخرين وأخريات عليها كفيل وحده بأن يضعف مقاومتها للغواية. قيل إن الزوجة تفضل أن يعتقد الزوج أنها معرضة للغواية ولكنها تقاوم، تفضل هذا عن أن يعتقد الزوج أنها محصنة دائما وأبدا ضد جميع عناصر الغواية ومصادرها ولا خوف عليها من استمرار تجاهله لها وتعاليه على نصيحة إطراء محاسنها وحسناتها. يبخل الزوج عليها بكلمات حب ومشاعر رقيقة بينما يسرف فى إغداقها على الغريبات، ومع ذلك تقاوم. ولكنها تعرف، ونحن أيضا نعرف، أن المقاومة للغواية تضعف مع الزمن أو مع تراخى استعمالها. يقال إنها كالعضلات فى جسم الإنسان تحتاج دوما إلى تقويتها بالاستخدام المنتظم وبشحذ وتدريب الإرادة اللازمة لهذا الاستخدام..
***
يقال إنه لا غواية شديدة فى شىء متاح أو متوافر، وأن المقاومة للغواية تقل فى المرة الثانية وأقل جدا فى المرة الثالثة. أجرى الباحث نيل جاريت من جامعة لندن بحثا أكد مقولة أن الشعور بالضيق الذى يعقب أحيانا الاستسلام للغواية يقل بالتدريج مع كل استسلام لنفس الغواية حتى ينتفى تماما. الكبابجى على سبيل المثال لا يشتهى كبابه، فالتعود على رائحة طعام بعينه يفقد صاحبه شهيته له، أى يفقده وازع المقاومة. قرأت أيضا أنه لوحظ على سلوك شعوب تعرضت لنكسات عنيفة انهيار جماعى فى مقاومتها شتى الغوايات، ثبت أن هذه القرى والمدن انتكبت بعد النكسات بدعاة دين وسياسيين ذاع وثبت صيت فسادهم.
***
أجزع من تفاقم ظاهرة الغش فى الامتحانات المصرية لعلمى أنه لا يقف فى وجه إغراء الغش إلا شباب بإرادة قوية وقيم رفيعة. بمعنى آخر لا يغش إلا الطالب الفاقد لقيم المقاومة. حاولت إحدى الجامعات الأجنبية أن تحصل على فهم أفضل لأسباب الغش فحقنت بعض الطلاب بمحلول يخفض الانفعال لتكتشف أن الطلاب المحقونين كانوا الأكثر إقبالا على الغش من الطلبة الذين بقيت سليمة قدرتهم على التمييز بين الخير والشر.
***
الغوايات تخلق حاجة ملحة أو رغبة عارمة الوفاء بها دائما أو كثيرا يضر بقدرة الانسان فى مستقبل أيامه على الانتظار والتحكم والمقاومة.