دروس تعددية الممارسات العولمية
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الأربعاء 11 يوليه 2018 - 10:15 م
بتوقيت القاهرة
بغياب أيديولوجية أو منظومة فكرية اقتصادية مترابطة ومتناسقة فى بلاد العرب حاليا، كما كان عليه الحال بالنسبة للعديد من الأقطار العربية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، يلح على الذهن هذا السؤال: إذا كانت أنظمة الحكم العربية لا تملك نسقا فكريا اقتصاديا، نابعا من ظروف الوطن العربى وملبيا لحاجات وتطلُّعات الأمة، فما الذى يحكم الحياة الاقتصادية العربية؟
فى اعتقادى أن الذى يحكم هو الانخراط التابع فى الأعراف والممارسات الاقتصادية العولمية التى ابتدعها الآخرون ويفرضونها على العالم منذ بضعة عقود، ونعنى بها الرأسمالية النيولبرالية العولمية بتفاصيلها الكثيرة المتشعبة.
حسنا، إذ لا يستطيع العرب أن يعيشوا خارج العالم المحيط بهم. ولكن ألا توجد ضمن تلك الأعراف والممارسات تنوعات فى التطبيق، بل وحتى فى الأهداف المراد تحققها؟
والجواب، هو «نعم»، إذ وجدت وتوجد أشكال من التعاملات مع النظام الاقتصادى العولمى السائد حاليا.
فالتعامل الأمريكى، مثلا، هو غير التعامل الصينى، والتعامل الكورى الجنوبى هو غير التعامل الاسكندنافى الأوروبى.
لقد كتب عن التجارب والتعاملات الآسيوية، وطالب الكثيرون من الكتاب العرب بدراسة نجاحاتها وتعلم دروسها التاريخية والحالية. ونبه الكثيرون إلى أن الدول الرأسمالية الآسيوية الناجحة قد مارست سياسات حمائية لصناعاتها ومختلف أنشطتها الاقتصادية، وذلك قبل أن تنخرط فى المنافسات العولمية وقبل أن تفتح أسواقها أمام الشركات والرساميل الأجنبية.
وها أن الولايات المتحدة الأمريكية، عرابة النظام الرأسمالى النيوليبرالى المتوحش وغير المنضبط، تعود إلى ممارسة الحمائية فى أبشع صورها. وهو ما يشير إلى أن النظام الاقتصادى العولمى ليس موضوعا مقدسا لا يمكن المساس به أو تعديله.
إذا كان المشهد الاقتصادى العولمى بهذه التعدديات التفصيلية، فما الذى يمنع العرب من انتقاء مجموعة من الممارسات الناجحة عند الغير وتوليفها لتكون صالحة ومفيدة للوضع العربى الاقتصادى الذى يعانى الأهوال سواء فى أقطاره الغنية أو فى بلدانه الفقيرة؟
فإذا كانت التجربة الآسيوية تعطى دروسا فى أهمية ممارسة الحمائية للصناعات والخدمات العربية الناشئة، فإن التجربة الاسكندنافية قادرة على إعطاء دروس فى أنسنة الرأسمالية النيوليبرالية، وإلباسها القيم الأخلاقية، وجعل سيرورتها لا تتعارض مع التزامات الدولة الاجتماعية تجاه جميع المواطنين، وعلى الأخص الفقراء والمهمشين، فى حقول من مثل الصحة والتعليم والعمل والسكن.
المطلوب هو دراسة القدرات والسياسات فى الدول الاسكندنافية (السويد والدنمارك وفنلندا والنرويج) التى مكنت تلك المجتمعات من جعل مؤسساتها الاقتصادية وشركاتها قادرة على المنافسة الاقتصادية مع الآخرين دون أن تفقد تلك المجتمعات روحها الإنسانية الأخلاقية، ودون أن تتنازل عن كونها دول رعاية اجتماعية شاملة فى حقول التعليم والرعاية الصحية وتوفير الأعمال ومحاربة البطالة ومساندة ذوى الإعاقة.
نقول ذلك، لأن الغالبية الساحقة من أنظمة الحكم العربية تسير على النهج الرأسمالى النيوليبرالى المتوحش الذى تمارسه دول من مثل أمريكا أو بعض دول أوروبا الجنوبية.
إن سير الغالبية الساحقة من الدول العربية نحو التخلى عن التزاماتها الاجتماعية، التى كانت تلتزم بها فى السابق، وتسليم تلك الالتزامات إلى القطاع الخاص يهيئ مجتمعاتهم لانفجارات واضطرابات بدأت طلائعها منذ عام 2011. وفى المدة الأخيرة أضيفت ممارسة جديدة، وهى تحميل المواطنين مسئولية عدم التوازن فى الموازنات الحكومية، والمطالبة المتنامية فى زيادة الرسوم والضرائب المباشرة وغير المباشرة.
إن كل ذلك يتم دون أى مساس بنمط الحياة السياسية العربية المتخلف وبامتيازات هذه الأقلية أو تلك، ودون إعطاء أية اعتبارات لظروف الفقراء وذوى الدخل المحدود.
فى هذه الأوضاع التى تقود بسرعة هائلة إلى زيادة غنى الأغنياء العرب، وإلى زيادة فقر فقراء العرب، بسبب الارتماء الأعمى فى أحضان إملاءات الرأسمالية النيوليبرالية العولمية، كما تمارسها بعض الدول الغربية الفاقدة للبوصلة الإنسانية والأخلاقية، نحتاج، نحن العرب، إلى إبعاد أنظارنا عن الممارسات المجنونة الأنانية المنحازة للأغنياء فقط، والبدء بالنظر إلى والتعلم من ممارسات أكثر إنسانية وعدالة.
لسنا بملزمين على الإطلاق بممارسة أخطاء وخطايا النظام الرأسمالى العولمى الحالى الجائر. لسنا بملزمين بإهمال فضيلة العدالة الاجتماعية فى توزيع الثروة، وبالتالى فى اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء واختفاء الطبقة الوسطى.
لسنا بمكرهين على قبول تنازل الدولة العربية عن التزامات الرعاية الاجتماعية الأساسية.
ليست الدولة العربية ولا المواطن العربى بملزمين بالدخول فى جنون المديونيات، التى تجنى أقليات من ورائها المال الوفير على حساب الدول والأفراد. ثم تقوم تلك الدول ويقوم أولئك الأفراد بممارسة ضنك العيش وفواجعه من أجل تسديد تلك الديون.
لسنا بملزمين أن نسلم أمورنا إلى متطلبات الأسواق وأنظمتها دون تدخل الدولة. فالسوق غير المنضبطة طريق للفواجع والانفجارات.
لن نكون، نحن العرب، وحيدى زماننا بالنسبة لهذا الأمر، فلقد مارسه بحكمة وشجاعة الآخرون، فلنتعلم منهم.