السلام الأزرق
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 11 يوليه 2022 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
مقابل فزاعة «حروب المياه»، تطل «مبادرة السلام الأزرق»، انطلاقا من مقاربة مفادها: «أن التعاون المشترك بين الدول بشأن المياه قد يساعد على إحلال السلام فيما بينها». وذلك استنادا على فرضية مؤداها: «أن كل دولتين ملتزمتين فى تعاون مائى فعال، لا يمكن أن ينزلقا إلى غياهب الحرب لأى سبب». ومن ثم، يعمل«مجتمع السلام الأزرق» على الترويج للمياه، باعتبارها محفز للتنمية المستدامة والسلام، عبر تحويلها من مُؤجج محتمل للصراع، إلى فرصة مؤكدة للتعاون والسلام. فضلا عن إدارة الموارد المائية المشتركة على نحو سلمى ومستدام، مع تحقيق الترابط بين الأمن المائى، وأمن الغذاء، والطاقة، والمناخ.
يتيح «السلام الأزرق»، تحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة الـ 17، التى حددتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2015. حيث يدعو إلى ضمان توفير المياه النظيفة والمرافق الصحية للجميع، بصورة آمنة ومستدامة، بحلول العام 2030. فمن بين ثمانية مليارات إنسان يشكلون عدد سكان المعمورة حاليا، يعجز ما يربو على مليارين منهم عن الوصول إلى المياه الصحية. وتتجاوز الإدارة المستدامة للمياه، مجرد ضمان إمداداتها المأمونة، وخدمات الصرف الصحى الملائمة، لتشمل سياق منظومة المياه الأوسع، ممثلة فى: جودة المياه، وندرتها، وكفاءة استخدامها، وتحقيق الكفاءة فى إدارة الموارد المائية ونظم صرفها، وحماية وترميم النظم الإيكولوجية المتصلة بها. علاوة على مناهضة عجز المياه، الناجم عن الندرة، وسوء إدارة الموارد، تحت وطأة الصراعات والحروب.
فى عديد بلدان، أفضى النمو الاقتصادى والسكانى المتسارع، علاوة على التحول الحضرى المتواصل، إلى زيادة الطلب على المياه، مع تراجع المعروض، جراء التغير المناخى. حيث يؤدى ذلك الأخير إلى تقويض استدامة الموارد المائية، عبر تقليص المتاح منها، وتهديد التنوع البيولوجى للمياه العذبة، وزيادة الإجهاد المائى فى المناطق القاحلة، حتى بات نصف سكان كوكبنا المائى مهددا بمكابدة الإجهاد المائى بحلول عام 2030. وفى هذا السياق، ظهر «الائتلاف الدولى للمياه والمناخ»، كإحدى المبادرات الدولية، التى تهدف إلى تحقيق التكامل بين أجندتى المياه والمناخ، من خلال تبنى سياسات رشيدة للتعاطى معهما. وذلك ابتغاء ضمان حماية وترميم النظم الإيكولوجية المتصلة بالمياه، وإجراء تحسينات نوعية فى إدارة الموارد المائية، وتقليل الهدر، وتحسين البنية التحتية، عبر ضخ الاستثمارات الضخمة.
لما كان تنامى معامل التعاون المائى بين الدول، كفيلا بتقويض احتمالات نشوب التوترات والصراعات حول المياه، فقد عمدت مبادرة «السلام الأزرق»، إلى حماية الأمن المائى. ذلك الذى يعنى قدرة السكان على ضمان الوصول المستدام إلى كميات كافية من المياه الجيدة، للحفاظ على سبل العيش، وضمان رفاهية الإنسان، وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتحصين النظم البيئية ضد التلوث والكوارث المتعلقة بالمياه، فى ظل مناخ يعمه السلام ويسوده الاستقرار السياسى.
كما تحرص المبادرة على تنشيط «الاقتصاد الأزرق»، الذى يبتغى تحقيق الاستخدام المستدام لموارد المجارى المائية، من أجل تحقيق النمو الاقتصادى، وتحسين سبل المعيشة والوظائف، مع الحفاظ على النظام البيئى لمصادر المياه.
منذ عام 1948، نجحت «الدبلوماسية الزرقاء»، فى إبرام قرابة 300 اتفاقية دولية بشأن التقاسم القانونى والسلمى للمياه. الأمر الذى تمخض عن ظهور نماذج عالمية ناجحة لإدارة الموارد المائية العابرة للحدود. أبرزها: حوض نهر الراين: فبرغم اختلافاتها العرقية واللغوية وخلافاتها السياسية والتاريخية، قدمت الدول الأوروبية التسع المتشاطئة فى حوض الراين، وهى: سويسرا، ألمانيا، فرنسا، لوكسمبورغ، هولندا، النمسا، ليختنشتاين، بلجيكا، وإيطاليا، نموذجا يحتذى للتعاون الحضارى والسلمى لحماية النهر من التلوث، ومراقبة نوعية المياه وكثافة تدفقها لتأمين الاستخدام الأمثل لمياه الراين، الذى يغطى مساحة 200 ألف كيلومتر مربع، وتصل مياهه إلى 20 مليون نسمة. ويجرى ذلك التعاون عبر هيئات عديدة، أبرزها اللجنة الدولية لحماية الراين، التى تأسست عام 1953، بالتنسيق مع المفوضية الأوروبية، وبموجب اتفاقية حماية نهر الراين، الموقعة فى أبريل 1999.
وبينما لا تمضى العلاقات بين تركيا وأرمينيا على ما يرام، يتقاسم البلدان الجاران ملكية سد يقع على حدودهما المشتركة، ويعود إلى الحقبة السوفيتية. حيث تجتمع لجنة فنية تركية أرمينية مشتركة كل شهر، لتحديد كيفية تقسيم المياه بين البلدين، وتنسيق أطر التعاون على نطاق واسع بشأن الاستفادة من هذا السد. حتى أن خبراء كثر يعولون على إمكانية مساهمته فى تحسين العلاقات القلقة بين البلدين. على صعيد آخر، لم يحل نشوب نزاعات بين الهند وباكستان، من حين لآخر، دون مواصلتهما العمل المشترك فى إطار معاهدة «مياه نهر السند»، التى تعود إلى ستينيات القرن الماضى. ولم تعرقل المواجهات العسكرية الثلاث التى نشبت بينهما جراء معضلة كشمير، مواصلة عقد اللقاءات الثنائية بموجب معاهدة «مياه نهر السند».
فى العام 2009، تم تصميم مبادرة «السلام الأزرق» فى الشرق الأوسط، لتنطلق رسميا فى فبراير 2010، من مدينة مونترو السويسرية، كآلية تعاون مائى تديرها دول الإقليم، بقيادة جماعية من العراق والأردن ولبنان وتركيا. وفى فبراير 2011، أعلنت الرئيسة السويسرية، ميشلين كالمى، أن المبادرة تنشد تحويل المياه إلى عنصر سلام، بدل كونها عاملا لإذكاء الصراعات وإشعال الحروب. حيث قالت: «إن المبادرة، التى تشترك فيها كل من سويسرا والسويد، ستعمل على تحويل المياه فى الشرق الأوسط، إلى مورد له نفس أهمية النفط، وبإمكانه أن يشكل بالنسبة لبلدان الإقليم، ما مثله الفحم والصلب بالنسبة لأوروبا، والذى تحول من مجرد اتحاد للفحم والصلب، عام 1957، إلى منظومة الاتحاد الأوروبى فى صيغتها الحالية». وقبل قليل، قرر كبار خبراء المياه من الدول المعنية، إنشاء آلية إقليمية جديدة للإدارة المستدامة والتعاونية للموارد المائية فى الشرق الأوسط، اعتبارا من مطلع العام المقبل. وذلك بهدف تأسيس البنية التحتية الممهدة للحوار، وبناء الثقة، وتنمية قدرات صناع السياسات فى قطاع المياه، عبر مشاريع تعاونية. الأمر الذى من شأنه ان يسهم فى تعزيز التفاهم وتهيئة مناخ من السلام والاستقرار.
ما كان لمصطلح «حرب المياه»، أن يغزو الأوساط السياسية والفكرية، لولا التداعيات السلبية الناجمة عن تزامن ندرة الموارد المائية، مع غياب التعاون، وشيوع السياسات المائية الصدامية. حيث كشف «معهد الموارد العالمية»، أن كوكب الأرض، الذى يعيش قرابة 40 % من قاطنيه حول الأنهار العابرة للحدود، بات أسيرا لتوترات ونزاعات مائية، قابلة للتحول إلى مواجهات مسلحة. وفى مؤلفهما المعنون: «القوة والاعتماد المتبادل»، الصادر عام 1977، أورد، جوزيف ناى، وروبرت كوهين، طرحين مهمين: أولهما، أن الاعتماد المتبادل بين الدول، يفضى إلى تقليص احتمالات الحرب وتعزيز فرص السلام والتعاون، كما هو الحال بين كندا والولايات المتحدة، أو ألمانيا وفرنسا. وثانيهما، أن اللجوء لاستخدام «القوة» سيظل قائما، فى ظل ارتفاع منسوب «الحساسية» و«الانكشاف الاستراتيجى»، بين الدول.
من هذا المنطلق، توالت على منطقتنا عديد طروحات، بداية من صيغة، شيمون بيريز، عام 1996، عن «الشرق الأوسط الجديد»، مرورا بـ«السلام الاقتصادى»، وصولا إلى «السلام الإبراهيمى» عام 2020. وتتهافت جميعها على فرض التصور الإسرائيلى للسلام، على العرب، برداء اقتصادى، أو طاقوى، أو مائى، أو حتى استراتيجى يروج لاحتواء التهديد الإيرانى. وهو تصور تدعمه واشنطن المتلهفة إلى تقليص وجودها الاستراتيجى فى المنطقة، توطئة لإعادة التموضع بشرق آسيا. وفى هذا السياق، يتحدث الإسرائيليون والأمريكيون عن تأثير البيئة السياسية، أوEco politics، على المحتوى الإقليمى لعملية السلام العربية الإسرائيلية. ويروجون فى سبيل ذلك لنوع من «الإقليمية الجديدة»، المرتكزة على جوانب تعاونية متنوعة. حيث تعنى «منظمة غاز شرق المتوسط» بسياسات الطاقة، فيما ناقش «لقاء النقب» بين وزراء خارجية مصر، وإسرائيل، والإمارات، والبحرين، والمغرب، قبل أسابيع، قضايا تنموية متنوعة، تصدرها أمن الغذاء، والأمن المائى.
غير أن تمرير أى من هذه الطروحات، أو سواها، يبقى مرتهنا بمدى جهوزية دول المنطقة لاستلهام نجاحات تجارب عالمية مماثلة. لجهة إقرار تسوية سياسية للأزمات والنزاعات التاريخية الإقليمية العالقة، وفى القلب منها القضية الفلسطينية. فلا سبيل إلى إقليمية تعاونية جديدة، قبل التوصل إلى توافقات سياسية مستدامة، تؤسس لتوازن راسخ فى القوى والمصالح، كما تضمن تسوية عادلة، وشاملة، ونهائية، لكل الخلافات والصراعات المزمنة. فعندئذ، قد تغدو الأجواء مواتية لتجاوز مرارات الصراع، ومد جسور التعاون البناء والمتكافئ.