العدالة والألتراس
عماد الغزالي
آخر تحديث:
الإثنين 11 أكتوبر 2010 - 10:19 ص
بتوقيت القاهرة
لعلنى أكثر الناس ابتهاجا بقرار مجلس القضاء الأعلى وقف نقل المحاكمات وبثها عبر وسائل الإعلام، فقد حذّرت قبل سنوات من هذه الظاهرة، وكتبت فى هذا المكان يوم 9 أغسطس الماضى تحت عنوان «العدالة على الهواء» منتقدا تأثيرها السلبى على الأحكام، ويحق لى أن أتصور أن ما كتبته كان دافعا لاتخاذ مجلس القضاء هذا القرار، وسواء كان تصورى صحيحا أم لا، فلا بأس أن أعيد عليك بعضه، فليس أروع للكاتب من أن يجد صدى لما يكتب.
قلت إن المحاكمة ليست مباراة فى كرة القدم ينحاز فيها جمهور المشاهدين إلى فريق دون آخر، ويطلق آهات الإعجاب بقرارات الحكم إن جاءت فى مصلحة فريقه، أو يمطره بالشتائم واللعنات إن جاء حكمه على غير هواه، وأفزعنى مشهد القاضى مشغولا بمتابعة الكاميرا حريصا على تسوية هندامه إن اتجهت العدسات ناحيته، مبتسما دون مقتضى وملوحا لمتابعيه فى المنازل على طريقة الكابتن ممدوح فرج حين يصبح فى وضع «كلوز أب»، وألاعيب المحامين الذين إذا جاء الحكم فى صالح موكليهم، أكدوا أنهم كانوا واثقين من البراءة، لأنهم شطّار للغاية، أما إذا لم يحالفهم الحظ، فيعلنون أن فى جعبتهم العديد من المفاجآت التى ستقلب القضية رأسا على عقب، ويتوعدون الخصوم فى الاستئناف والنقض، فإذا جاء الحكم النهائى على غير ما يرغبون، أكدوا أنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير.
وقد اعتادت هذه النوعية من البرامج أن تستضيف أثناء بثها الحى لوقائع المحاكمة أشخاصا، يؤكدون احترامهم الكامل للقضاء والتزامهم بعدم التعليق على أحكامه، ثم ينطلقون بجسارة يحسدون عليها منتقدين الحكم ومفنّدين سوءاته ومفاسده، ومعلنين دون مواربة أن غرضا ما فى نفس القاضى أملى عليه الحكم، وقد يقسم بعضهم أن الحكم كان جاهزا قبل المرافعة وسماع الادعاء والخصوم.
مرة أخرى أقول إننا وجهنا إهانة بالغة للقضاة حين أنزلناهم من عليائهم، وألقينا بهم فى بحور السياسة وأمواجها المتلاطمة، وقد كان يحظر على القضاة فيما مضى أن يظهروا بكثرة فى الأماكن العامة، ويشدد عليهم ألا يتوسعوا فى علاقاتهم الاجتماعية كى يبقوا دائما بمنأى عن الشبهات، أما الآن فقد صرنا نتابع معارك القضاة والمحامين، وتحولت أخبار فساد البعض منهم إلى مادة جذّابة فى الصحافة اليومية.
ما جرى أننا بدعوى الشفافية والديمقراطية وحرية الإعلام، انتقلنا بالعدالة ورموزها من التجريد إلى التحديد، ثم إلى التجسيد المبتذل، وهذا خطأ فادح.
الذين يروجون للفوضى بداعى الحرية، ليسوا أقل خطرا ممن يكرسون للجمود بداعى الاستقرار.