انتخابات الرئاسة فى أمريكا: رئيس متخاذل
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 11 أكتوبر 2012 - 8:25 ص
بتوقيت القاهرة
دخلت انتخابات الرئاسة فى الولايات المتحدة أيامها الحاسمة. وكالعادة ننشغل بها كما انشغلنا بكل انتخابات رئاسية أمريكية تجرى كل أربع سنوات، وان كنت اعتقد أن قدماءنا من السياسيين، حكاما ومحكومين، لم ينشغلوا كانشغالنا. لا أظن أن زعماء حزب الوفد أو الإخوان المسلمون اهتموا فى النصف الأول من القرن الماضى بمن كان سيأتى بعد تيودور روزفلت. ربما بدأنا بعد الحرب العالمية الثانية نهتم بمن يسكن البيت الأبيض رئيسا لأمريكا، ففى ذلك الحين كانت مفاوضاتنا مع الإنجليز تدفعنا للبحث عن صديق جديد، غير أوروبى، يدعم موقفنا فى المفاوضات. كنا منبهرين بالدور الأخلاقى الذى صاغه لأمريكا الرئيس ولسون حين تصدر لصياغة المبادئ الأربعة عشر الشهيرة فى مؤتمر فرساى فى نهاية الحرب العالمية الأولى، قبل ان تقرر أمريكا العودة إلى انعزالها الشهير الذى امتد حتى نهاية الثلاثينيات. تضاعف اهتمامنا بمن يشغل البيت الأبيض بعد نكبتنا فى فلسطين وبروز اليهود كقوة سياسية داخلية فى أمريكا. ثم تعددت الأسباب واستمر اهتمامنا بانتخابات أمريكا الرئاسية يتجدد كل أربع أعوام.
●●●
تطفو على السطح، مع كل دورة انتخابية جديدة، أسباب عابرة، تجدد اهتمامنا بالانتخابات الأمريكية. فى هذه الدورة استجد سببان. يتعلق الأول بالمرحلة الانتقالية الجديدة التى تمر فيها الولايات المتحدة. مرحلة تنتقل فيها من مكانة الدولة العظمى إلى مكانة دولة كبيرة بين دول أخرى كبيرة، أكثرها صاعد بسرعة وكفاءة إلى مرتبة أعلى، فى وقت تنزل فيه أمريكا ببطء واتزان إلى مرتبة أدنى. كان شاهدا على هذه المرحلة الانتقالية ومهندسا لها الرئيس أوباما خلال ولايته الأولى. وسواء استمر أوباما الرئيس القادم، أو استجد رومنى، سيكون الرئيس مسئولا عن أمن أمريكا وسلامتها فى لحظات رسوها عند مرتبة جديدة.
السبب الثانى الذى يدفعنا إلى الاهتمام الإضافى بهذه الدورة من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، هو أن الشخص الذى سيحتل مكتب الرئيس فى البيت الأبيض فى يناير المقبل سيتحمل مسئولية صياغة منظومة سياسية خارجية جديدة أحد مقوماتها شبكة علاقات جديدة مع دول وشعوب عديدة تتولى تسيير أمورها حكومات «إسلامية». ولا يحتاج الأمر إلى تهويل حين نقول ان المسئولية ستكون ثقيلة، وتحتاج إلى مهارة وإبداع. فالشرق الذى تعاملت معه أمريكا على امتداد قرن لا يشبه الشرق الكبير الجديد الممتد من الأطلسى حتى الحدود الغربية للصين. يهمنا الأمر، ليس فقط لأننا بحكم موقعنا وتأثيرنا سنكون أحد أهم موضوعات هذه المنظومة فى العلاقات الدولية، ولكن أيضا لأننا، شئنا أم أبينا، بصدد وضع منظومة سياسية خارجية تعتمد المفاهيم نفسها وتراعى الواقع الجديد عندنا وفى الإقليم.
●●●
بدأ التصويت فعلا فى مواقع بعينها لانتخاب الرئيس رقم خمسة وأربعين للولايات المتحدة فى تقليد استمر الأمريكيون فى التمسك به منذ أول انتخابات جرت فى عام 1789 وجاءت بجورج واشنطن رئيسا للجمهورية. هذه الانتخابات يراها البعض، مثل جريدة الإندبندنت البريطانية، الممارسة الديمقراطية الأكبر والأعلى تكلفة والأشد توحشا فى العالم. ولعله رأى صائب، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار أنه فى الوقت نفسه يجرى انتخاب 435 نائبا للكونجرس و33 عضوا لمجلس الشيوخ واثنى عشر محافظ ولاية. ويقدر انه بنهايتها سيكون قد أنفق على هذه الحملات ما يزيد على ستة مليارات من الدولارات. وقد بدأ السباق فعليا فى ولاية آيوا فى أول يناير الماضى وينتهى يوم 6 نوفمبر، ويتضمن هذه المرة أربع مناظرات رئاسية، وأربع مناظرات بين نائبى الرئيسين. وقد انعقدت بالفعل المناظرة الرئاسية الأولى قبل أيام فى مدينة دنفر عاصمة ولاية كولورادو، وأثمرت عاصفة من الآراء هزت قواعد حملتى الرئيسين وأسقطت تنبؤات وتقديرات كانت قد استقرت، وفتحت الأبواب أمام احتمالات لم تكن مطروحة.
●●●
تابعت المناظرة وفى ذهنى مناظرات أخرى تابعتها على مر السنين. جرت إحداها فى القاهرة بين اثنين من المرشحين لمنصب رئاسة الجمهورية المصرية، كمحاولة لا بأس بها لتقليد إحدى ممارسات الديمقراطية الأمريكية. يمكننا فى ظروف أخرى عقد مقارنة بين المناظرة المصرية والمناظرات الشهيرة التى خلفت انطباعات معينة فى نفسى. أذكر جيدا المناظرة بين ريتشارد نيكسون وجون كنيدى. كان نيكسون كعادته خطيبا مفوها ومناظرا قويا وخسر الانتخابات بعدها. وأذكر مناظرة رونالد ريجان وجيمى كارتر التى دارت وانتهت فى أجواء فوز محقق لريجان بسبب شعبيته التى فاقت بكثير شعبية الرئيس جيمى كارتر. كان ريجان يجيب كالصاعقة ولكن بطلاقة وخفة ظل وابتسامة ساخرة حتى أن كثيرين اشفقوا على الرئيس كارتر. وفى مناظرة لاحقة فى عام 1984 كان ريجان رءوفا بخصمه والتر مونديل، حتى أنه قال إنه لا يريد استغلال ضعف خصمه ونقص خبرته فيكشفهما أمام الرأى العام الأمريكى. وبالفعل كان انتصار ريجان فى المناظرة وفى الانتخابات ساحقا.
●●●
بدأت المناظرة بين باراك أوباما وميت رومنى هادئة ولكن لم يكن خافيا منذ اللحظة الأولى أن أوباما متوتر ورومنى بادى الارتياح والاستعداد. جئت إلى مقعدى أمام التليفزيون وأنا واثق من انطباعات تشكلت عندى عن المتناظرين عبر السنين. جئت مدركا اننى سوف أشهد فصاحة لسان وطلاقة منطق وقدرة مبهرة على الإقناع من جانب الرئيس أوباما. باراك الذى أعرفه كان خطيبا مفوها عندما كان طالبا ثم ناشطا سياسيا ثم مرشحا لمجلس الشيوخ ورئاسة الجمهورية. جئت مقتنعا أيضا بأن ميت رومنى سيكون الطرف الضعيف، ليس فقط بسبب عدم تناسب قدراته الخطابية مع قدرات أوباما، ولكن أيضا بسبب الفشل المتلاحق الذى أصاب حملته الانتخابية وقلة خبرته السياسية، وبخاصة فى نواحى السياسة الخارجية.
مرت لحظات قبل ان أكتشف أن أوباما «منطفئ» إن صح التعبير، لا بريق ولا فصاحة ولا ذكاء ولا جرأة ولا تصميم ولا هجوم. ظهر أوباما خلال المناظرة شخصا آخر. ظهر كما لو كان كان شخصا مستنسخا منزوع الأسلحة أو الخبرة أو المعلومات مكلفا بالوقوف أمام خصم عنيد. وانتهت المناظرة بفوز ساحق لرومنى، وخيبة أمل كبيرة لدى المشاهدين كافة الذين حرصوا على الاستمتاع بمباراة فى الصدام الكلامى. هؤلاء وجدوا أوباما ساكنا على غير العادة و المناظرة مملة. وعلى الفور دارت عجلة الإعلام الأمريكى تحاول فهم ما حدث. لماذا جاء أوباما إلى المناظرة على هذه الصورة، لماذا لم يدافع عن سياساته؟ لماذا لم يهاجم خصمه ويضربه فى مواقع ضعفه مثل استهانته بالناخبين الديمقراطيين وإهانته إياهم، و تهربه من دفع الضرائب، ومثل نواحى الفساد الذى يجرى التحقيق فيها؟ ومثل أخطائه فى السياسة الخارجية؟
●●●
راح الناس يبحثون عن تفسيرات وتبريرات ويحاولون الإجابة عن السؤال: لماذا فعل أوباما ما فعل، أو لماذا لم يفعل ما كان يجب أن يفعله؟ قيل فى التفسيرات، لعله متردد فى التجديد لولاية ثانية. قيل أيضا إن الغرور ركب أوباما إلى حد أنه لم يستعد للمناظرة معتمدا على ذكائه المتوقد «دائما» وتجربته العملية واطمئنانه إلى تفوقه.. فلم يذاكر للمناظرة. هل نصحه مستشاروه بأن يحافظ على هدوئه إلى أقصى حد لأن الآخرين ربما خططوا لايقاعه فى فخ فقدان السيطرة على أعصابه؟. أم أن الأمر لا يتعلق بهذا أو ذاك وإنما بحقيقة أن أوباما «يمقت» ميت رومنى ويحتقره، ويجد فيه شخصا لا يستحق الرد عليه.
●●●
على الناحية الأخرى، كان الجمهوريون قد استعدوا أفضل استعداد. فقد أخذوا مرشحهم إلى مقاطعة فيرمونت الخلابة بمناظرها الطبيعية وهدوئها وألوان خريفها الرائعة، وفرضوا عليه ان يدرس. أعدوا مئات الأسئلة ومئات الأجوبة، وزودوه بطاقة هائلة للثقة بالنفس وشحنوه بتقارير واحصاءات تؤكد تدهور حالة أمريكا الاقتصادية، وتدهور الدخول الحقيقية للفرد العادى وبخاصة اصحاب الدخول المتوسطة. كلفوه بأن يترك الانطباع لدى المشاهدين أنه كان مخطئا حين انحاز صراحة إلى الأغنياء، وها هو يعود فى المناظرة إلى موقع الوسط، حيث يقف أغلبية الناخبين، ويركز على مصالح الطبقة الوسطى. كلفوه أيضا، وكانوا محقين، أن يبتعد قدر الإمكان عن الدخول فى تفاصيل السياسة الخارجية ليس فقط لأنها لا تهم الناخبين كثيرا فى هذه المرحلة ولكن لأن خصمه، بكل المعايير، أقوى منه فى هذا المجال.
●●●
مازال الناس فى أمريكا يبحثون عن تفسير أو تبرير مناسب لسلوك أوباما فى المناظرة. خرجت «تدوينة» نشرتها صحيفة كريستان ساينس مونيتر تحت عنوان رسالة من أوباما إلى مواطن أمريكى يحاول فيها صاحبها تقديم تفسير أو تبرير. يقول إن رومنى فاجأه حين دخل إلى المناظرة بابتسامة مرسومة بمهارة فائقة، لم تغادر وجهه فى أى لحظة خلال المناظرة، ويسأل من أين جاء رومنى بهذه اللباقة.. و تضيف المدونة على لسان أوباما فتقول «أعرف أن رومنى ربما كسب أصواتا جديدة بسبب مهارته فى التمثيل خلال المناظرة، أما انا فكنت أشبه بمذيع تليفزيون يروج لبضاعة يكرهها».
●●●
هكذا فعلا ظهر أوباما أمام عشرات الملايين من المشاهدين فى أمريكا والعالم. ظهر رئيسا متخاذلا و غير متحمس لوظيفته، أو رئيسا بلغ به الغرور حد الاستهانة بمنافسه والناخبين الأمريكيين.