عامان من الحرب على غزة.. استنتاجات وتساؤلات

أحمد عبد ربه
أحمد عبد ربه

آخر تحديث: السبت 11 أكتوبر 2025 - 6:45 م بتوقيت القاهرة

كعادتها، كانت مصر، ومدينتها للسلام – شرم الشيخ – مسرحًا للفصل الأخير من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. عامان من القتل والتخريب والتدمير وجرائم الحرب الإسرائيلية ضد سكان القطاع المدنيين لم تستطع أى قوة دولية إيقافها، سوى حينما عزمت الإدارة الأمريكية على أن هذا هو وقت الانتهاء، ليس لرغبة الأخيرة فى السلام من أجل السلام، ولكن من أجل الحصول على الدعاية السياسية التى يحاول الرئيس ترامب الترويج لها داخليًا وخارجيًا لحساباته الخاصة! بعيدًا عن الكيفية التى توظف بها الإدارة الأمريكية هذه الدعايات السياسية لمصالحها الداخلية، فما يهمنا أن الحرب بالفعل انتهت، على الأقل حتى الآن! ما الذى يمكن استخلاصه من هذه الحرب؟ وما التساؤلات التى ما زالت تبحث عن إجابة؟ فى السطور القليلة القادمة أقدّم قراءة أولية قابلة للتنقيح والتطوير فى الأشهر القادمة.

• • •

أولًا: تبقى قضية فلسطين حجر الزاوية فى استقرار وتنمية الشرق الأوسط، ومهما حاولت الولايات المتحدة أو إسرائيل أو أوروبا الالتفاف حول القضية، والإيحاء للجميع بأنه يمكن تجاوزها بمجموعة من الترتيبات الاقتصادية والتنموية، فستظل القضية قابلة للانفجار فى أى لحظة طالما أن الشعب الفلسطينى لم يحصل على حقه الذى أقره القانون الدولى منذ أكثر من قرن كامل، ألا وهو حق تقرير المصير وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة لها موانئ برية وبحرية وجوازات سفر وهوية قومية معترف بها دوليًا.

ثانيًا: مثّل العامان الماضيان هزيمةً لبعض سرديات جماعات الإسلام السياسى التى اعتمدت، منذ هزيمة ١٩٦٧، سردية تقوم على تخوين مصر بالأساس وادعاء أنها سبب ضياع فلسطين، لتثبت مصر - الشعب والنظام السياسى - أن هذه السردية ليست فقط ظالمة، ولكنها أيضًا منحطة، لأنها لا تسعى فقط إلى تصفية الحسابات السياسية والتاريخية مع النظام المصرى، بل لأنها مستعدة لأن تفعل ذلك حتى لو كان على حساب الشعب الفلسطينى، بل وحتى لو كان يعنى ذلك التحالف مع اليمين الإسرائيلى المتطرف، العلمانى منه والدينى.

ثالثًا: برهنت شهور الحرب أيضًا على أن بعض المنتمين إلى اليسار المصرى فى حاجة إلى مراجعة شاملة لافتراضاتهم بخصوص القضية الفلسطينية، سواء فيما يتعلق بطريقة تسويتها أو بالموقف المصرى منها. فالتجديد الأيديولوجى فرض، وإلا ظل هؤلاء أسرى لحالة «الناشط السياسى الغاضب والحانق من كل شىء وعلى كل شىء»، وهى حالة من العمى الأيديولوجى تثير الشفقة أكثر مما تثير الحنق منهم أو عليهم.

رابعًا: إن كان أى دارس أو باحث أو متخصص فى العلوم السياسية والعلاقات الدولية ما زال يساوره الشك بشأن موضوعات القانون الدولى والمؤسسات الدولية كوسيلة لفض المنازعات وتطبيق عدالة ما يسمى بـ«المجتمع الدولى»، فبعد هذه الحرب لا أعتقد أننا بحاجة إلى أى إثبات إضافى أن افتراضات المدرسة الواقعية فى السياسة الدولية – سواء فى نسختها التقليدية أو المحدثة – تبقى فى مجملها صحيحة؛ فالأساس هو الفوضى وغياب القانون الدولى أو تطبيقه بشكل انتقائى بحسب توازنات القوة، لا بحسب الموقف من الإنسانية أو من الحضارة، إلى آخر هذه الافتراضات المثالية الساذجة.

خامسًا: مهما حاولت التيارات اليمينية الإسرائيلية الترويج لنظرية الردع عن طريق استخدام القوة المفرطة لإخضاع الفلسطينيين، فهذه النظرية هُزمت فى السابع من أكتوبر، وستُهزم مستقبلًا مهما كانت موازين القوة تميل لإسرائيل عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، ومهما كانت تتمتع بدعم أمريكى. تستطيع إسرائيل متى شاءت أن توجه ضربات موجعة ومميتة للفلسطينيين، كما تستطيع أن تقتل منهم الأطفال والنساء والعجائز ما شاءت، لكنها لن تستطيع رغم ذلك كسر عزيمتهم وإيمانهم بحقهم المشروع فى دولة مستقلة. لن يستطيع نتنياهو، ولا بن غفير، ولا سموتريتش، مهما بلغوا من قوة، ومهما أظهروا من صلف وتجبر، ومهما ارتكبوا من جرائم حرب يغضّ المجتمع الدولى الطرف عنها وعنهم، أن يحموا مواطنى إسرائيل إلا بالسلام الحقيقى الذى يعترف بحق الفلسطينيين فى الوجود، وغير ذلك فستظل إسرائيل دولة منبوذة، ويظل المواطن الإسرائيلى دائمًا معرضًا للاستهداف والخطر.

سادسًا: ما أسهل تشجيع الحرب، وما أسهل تخوين من يرفضها، لكن فى النهاية من يدفع ثمنها الحقيقى هم البشر! الحرب دمار للبشر قبل الحجر، ومن يردد هذا الكلام ليس خائنًا ولا عميلًا ولا متصهينًا، بل على العكس، هو يبحث عن عصمة الدماء والسبل البديلة لأهوال استخدام الأسلحة والمدافع. إن كان البعض يتساءل مستنكرًا: ماذا جلب لنا التفاوض؟ وهل أدى التفاوض إلى قيام دولة فلسطين؟ فعلينا أن نرد عليهم مستنكرين بدورنا ونتساءل: وماذا جلبت الحرب؟ هل تمكنت حماس بالحرب من تحرير فلسطين؟ هل استطاعت حتى تغيير أى من موازين القوة؟ الحقيقة: لا. فالسلاح لم يحرر دولة، ولم يغيّر معادلة سياسية أو عسكرية، ولا دليل على هزيمة حماس فى معادلاتها الحربية والسياسية أكبر من أن نسأل: أين كان القطاع فى ٦ أكتوبر ٢٠٢٣؟ وأين أصبح فى ٢٠٢٥؟ تتفاوض حماس الآن على انسحاب الجيش الإسرائيلى من غزة بعد أن دُمّرت الأخيرة تمامًا! تمكنت حماس من تحرير بضعة آلاف من السجناء، لكنها فى المقابل دفعت ثمنًا يقارب ٧٠ ألف شهيد من أهل غزة، علمًا بأن هذه مجرد حصيلة أولية، وربما – بحسب تقارير دولية – تكون الأعداد أكبر من ذلك بكثير! وبالإضافة إلى كل ذلك، كانت حماس تحكم غزة فى ٢٠٢٣، وهى الآن خارج أى معادلة سياسية مستقبلية!هذا ليس لومًا للضحية أو تأييدًا للجانى، كما يقول البعض بحسن نية أو بسوء، لكنها حسابات المكسب والخسارة التى يجب على أى جماعة أو حزب أو شخص مسئول عن حكم شعب أن يسألها قبل أن يكون ثمن شعاراته دماء هذا الشعب وأمنه وحياته.

• • •

وهنا تبقى ثلاثة أسئلة للمستقبل القريب: الأول: ما ضمانات ألا يقوم نتنياهو وحكومته بالاعتداء على غزة مجددًا بعد أن يحصل على كل الرهائن الإسرائيليين؟ أما الثانى، فعن مستقبل إعمار غزة، والثالث والأخير عن مستقبل القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطينى المشروع فى تأسيس دولته.

فيما يتعلق بالسؤال الأول، فالإجابة بسيطة: لا توجد ضمانات، لا دولية ولا حتى أمريكية، والضامن الوحيد لعدم حدوث ذلك هو قرار عربى جماعى، لا فردى ولا مصرى فقط، قرار بإجراءات عقابية تفرضها مصر والسعودية والإمارات وقطر على الجانب الإسرائيلى من خلال الضغط على الإدارة الأمريكية. وأدّعى أن الدول الأربع المذكورة تستطيع تنفيذ هذه العقوبات وممارسة هذا الضغط لو توافرت الإرادة السياسية، ودون ذلك – وبمنتهى الصراحة – لا ضمانات.

أما فيما يتعلق بالسؤال الثانى، فمن المفترض أن تبدأ خطة إعادة الإعمار فور الانتهاء من المرحلة الأخيرة من اتفاق شرم الشيخ، ولكن حتى الوصول إلى هذه المرحلة، فأهل غزة – فى تصورى – فى حاجة إلى أربع مساعدات عاجلة: الغذاء، والدواء، والمسكن، والتعليم. وحسنًا فعلت مصر حينما قامت فور الانتهاء من الاتفاق بإرسال مساعدات عاجلة من دواء وغذاء إلى أهل غزة، كما قامت جرّافات مصرية بالتحرك – حتى من قبل توقيع اتفاق المرحلة الأولى وفور أن أعلنت حماس الموافقة على خطة ترامب – نحو غزة لإزالة بعض الأنقاض وإقامة المخيمات. ومرة أخرى، لا يحتاج الشعب المصرى ولا نظامه انتظار الشكر أو العرفان أو حتى الاعتراف من خصومهم السياسيين بالدور الناشط والأمين والنزيه تجاه قضية فلسطين وقطاع غزة، فهذا واجب تفرضه العروبة والجوار ومقتضيات الأمن القومى المصرى.

أما الإجابة عن السؤال الأخير، فنحن اليوم، وبكل أسف، ما زلنا بعيدين للغاية عن فرصة إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يتطلب حديثًا مستفيضًا فى المستقبل.

أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved