«منتصف العمر» فرصة جديدة!
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 11 أكتوبر 2025 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
صُنعت مادة هذا الكتاب من تجربةٍ ذاتية، ومن تجارب الآخرين، لكنه اعتمد أيضًا على دراسة نفسية عميقة للبشر، وتقلباتهم ومخاوفهم، وفلسفة متفائلة تهتم بالمستقبل، مثلما تتعامل مع منغّصات الحاضر.
الأهم من كل ذلك أن مؤلفة الكتاب لا تتعالى، ولا تظن أنها امتلكت الحقيقة، إنها تقدم رأيها فحسب، تؤمن باختلاف الطبائع والقدرات، ولكنها تؤمن أيضًا بقدرة الإنسان على تغيير حياته، وقدرته على الميلاد الجديد، بإرادته المستقلة.
الكتاب بعنوان «أزمة منتصف العمر الرائعة»، من تأليف الكاتبة ومقدمة البرامج التليفزيونية وخبيرة التربية وعلم النفس الأمريكية إيدا لوشان (1922-2002)، وقد ترجمت كتابها البديع سهير صبرى، وصدرت الترجمة العربية فى عدة طبعاتٍ متتالية، أحدثها تلك الطبعة الصادرة عن دار صفحة 7 السعودية.
أعتقد أن نجاح الكتاب عالميا ومصريا، يرجع إلى أفكاره اللامعة، ومزجه بين التجارب الحية والافتراضات النظرية، وبسبب نجاحه فى الإجابة عن أسئلة مهمة، خاصة مع الافتقار إلى دراسات عميقة عن فترة منتصف العمر، بالإضافة إلى أسلوب السرد المتدفق مثل الحكاية، بحيث يمكن اعتباره أيضًا سيرة ذاتية للمؤلفة التى انشغلت بالعمل على كتابها لمدة عامين، فى فترة منتصف العمر، من سن الثامنة والأربعين إلى سن الخمسين.
أضافت المقدمة التى كتبها الراحل د. يحيى الرخاوى الكثير إلى أهمية الكتاب، وحسنًا فعل بالبدء أولًا بتعريف مرحلة منتصف العمر، وتقديرها بنحو أربعين سنة، فهى الفترة الزمنية ما بين سن العشرين إلى عمر الستين، وهو تعريفٌ واسع ينقسم بدوره إلى منتصف العمر الباكر (من العشرين إلى الأربعين)، ومنتصف العمر المتأخر (من الأربعين إلى الستين).
ولكن إيدا تركّز أكثر على تلك الفترة المتأخرة، وتضع لفصول كتابها عناوين شيقة، تحكى وتحلّل وتدرس، وتتحدث عن نفسها، وعن ابنتها الوحيدة، وعن زوجها المتخصص أيضًا فى علم النفس، وتمتلك حججًا منطقية بقدر ما تملك قصصًا عاطفية مؤثرة.
جوهر الكتاب فى تلك الفكرة المحورية: منتصف العمر ليس هو النهاية، ولكنه مفترق طريق، وفرصة لا تعوّض لبداية جديدة، بشرط ألا تعيش أسير ذنب الماضى وقيوده، وبشرط اكتشاف الذات بعمق، والتصالح معها، والبحث عما يمكن أن يجعلك أفضل وأحسن.
حيثيات ما تسميه إيدا بالنهضة الجديدة، أن الإنسان يتحرر فى هذه المرحلة من مسئوليات ثقيلة كانت تشغله، بأن يستقل الأبناء فى حياتهم، كما أنه يمتلك فى تلك المرحلة العمرية خبرة وتجربة، وربما وعيًا وبصيرة، لم يكن يمتلكهما فى مراحل شبابه، ويتيح له كل ذلك فرصة إعادة اكتشاف نفسه والعالم، بل إن حتى هاجس الموت وفقدان الحياة فى أى لحظة، يمكن أن يتحوّل إلى طاقة عمل وحياة، ورغبة فى أن يحقق ما لم يستطع تحقيقه من قبل.
يتميز الكتاب ببناء منطقى متماسك، حيث تبدأ إيدا بدراسة امرأة منتصف العمر ورجل منتصف العمر، ثم تفاعل الاثنين مع الأبناء الأصغر سنًّا، وتفاعل أزواج منتصف العمر مع بعضهم البعض، وتقدّم طرقًا وأساليب للتعامل مع أزمة منتصف العمر، بما فى ذلك العلاج النفسى، دون أن تجد حرجًا فى الاعتراف بأنها هى نفسها حصلت على الاستشارة النفسية لعشرين عامًا، وأن ذلك ساعدها كثيرًا على النمو والتكيف والبداية الجديدة.
تقدّم الكاتبة أيضًا نظرات نفسية واجتماعية ثاقبة، وتربط تفاقم أزمة منتصف العمر عند جيلها بأنه شهد تحولات كبيرة عاصفة (فى النصف الثانى من القرن العشرين)، ما بين حياة كلاسيكية محافظة وحياة متحررة ومستقلة، مما فرض اختيارات صعبة وشاقة. وبينما تتحدث عن صراعٍ تعانيه المرأة بين بيتها من ناحية، وعملها من ناحية أخرى، فإنها تنحاز إلى الخبرة العملية المباشرة، وإلى اعتبار دور الأم والزوجة أولوية، دون إغفال تحقق المرأة فى عملها، وتركّز بشكلٍ خاص على واقعية التعامل مع الطبيعة الإنسانية، ورفض ثنائية الأبيض والأسود، وعدم الاستسلام للشعور العارم بالذنب، إذا أخطأ الأبناء، أو إذا اختاروا ما يبتعد عما أردناه لهم.
المشكلة التى تبرز تجلياتها فى «منتصف العمر» هى اقتصار دور المرأة على الإنجاب فقط، وتكريس دور الرجل فى الإنفاق فقط، بينما يحتاج كل طرف إلى اكتشاف نفسه وقدراته وإمكاناته، مع التخلص من الأقنعة التى تفرضها علينا طبيعة الأدوار الاجتماعية الرسمية، والاستفادة من فترة النضج والخبرة التى يوفرها العمر وتوفّرها التجربة.
لا تُغفل إيدا فكرة تفاوت الأجيال واختلاف الآراء بين الآباء والأبناء، لكنها تمتلك نظرة واسعة وتفهمًا كبيرًا لهذا الاختلاف، وتحكى بالتفصيل عن صدمتها عندما كانت مع زوجها فى برودواي، ثم فوجئت بابنتها الشابة حافية مع أصدقائها من شباب الهيبيز، وتحلِّل أسباب تمزق الشباب فى تلك المرحلة العاصفة من التاريخ الأمريكي، وتشرح كيف تحولت الصدمة إلى حواراتٍ طويلة مع هؤلاء الشباب.
يعالج الكتاب بجرأة العلاقات المتوترة بين المتزوجين فى منتصف العمر، وتنجح إيدا فى الحصول على اعترافات من متزوجين بعلاقات خارج مؤسسة الزواج، وتحاول أن تقدّم تفسيرًا نفسيا لذلك، كما تربط بين الطلاق واستقلال الأبناء عن الأسرة، وبالتالى انتهاء أسباب التماسك العائلى، فكثيرًا ما تتوارى الخلافات من أجل الأبناء، وكثيرًا ما تؤجَّل المواجهات تحت ستار الانشغال بالحياة العائلية والتزاماتها. ولكن التقدّم فى السن لا ينشئ الخلافات من العدم، وإنما يكشفها ويجسِّمها، بعد أن كانت مختفية ومتوارية، وفى الكتاب نماذج كثيرة غريبة لحالات انفصال بعد زيجات كانت تبدو ناجحة، ولكنها كانت فى الواقع علاقات هشّة مستترة وراء أقنعة اجتماعية سميكة.
أجمل ما يهديه الكتاب إلى قارئه، هو تلك الزوايا المتعددة لقراءة الإنسان والحياة، ببساطة وعمق وتواضع، فنحن كائنات معقّدة وليست سهلة، ونحن فى حالة نمو ونضج مستمرة، وفى حالة اكتشاف لا تتوقف، سواء للذات أو للعالم. أراه كتابًا يصلح لكل الأعمار، لأنه يساعدنا على التحليل والنقد، ومواجهة المشكلات، والاقتراب من مرحلة التوازن، والتصالح مع النفس.