شرعيّة الأرض الفلسطينية

قضايا فلسطينية
قضايا فلسطينية

آخر تحديث: الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 6:20 م بتوقيت القاهرة

الزعم بأن السلام الحقيقى والعادل فى فلسطين، أو حل الدولتين، يمكن أن يتحقق بمجرد توقيع وثيقة هو ضرب من الوهم، لأن تحقيقه يتطلب فى الحقيقة معالجة قضايا معقدة، ومتعددة الأبعاد، وسط مناخ ساخن، وقتل، وتهجير، وتجويع، وتجريف للأرض.

ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، أدى إلى تغيير فى التوازن العالمى للقوى، ما نتج عنه تداعيات لا تزال قائمة حتى اليوم، بما فى ذلك الصراعات الإقليمية، وحالات عدم الاستقرار، وهو ما يراه البعض شكلًا جديدًا من أشكال الإمبريالية.

يرى المحللون أن الركائز الأساسية لسياسة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط لم تتغير بشكل كبير منذ عهد الرئيس هارى ترومان، حيث يتم تنفيذها لتبرير الأهداف الإمبريالية لأمريكا، وللحفاظ على هيمنَتِها على كثير من مناطق العالم. تشمل هذه الركائز احتواء الاشتراكية، والتركيز على ما بعد الاتحاد السوفييتى، ومواجهة الأصولية الإسلامية، والسيطرة السوقية والعسكرية على موارد النفط فى العالم العربى، ودعم الأنظمة الوكيلة مثل إسرائيل، وقمع حركات التحرر فى المنطقة. وهذه السياسة قائمة، بغض النظر عن الحزب الذى يمسك بزمام السلطة، ما يدفع البعض إلى الاعتقاد بعدم وجود فروقات جوهرية بين إدارات الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى هذا الصدد.

من المحبط أن مساعى الولايات المتحدة، على مدى العقود الثلاثة الماضية، على الرغم من أنها قدمت نفسها كراع لعملية السلام فى الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، قد تعثرت، ولجأت أكثر إلى ما بات يسمى «إدارة الأزمات» عوضًا عن «حل النزاعات». وحاليًا، من الواضح أن الولايات المتحدة فشلت فشلًا ذريعًا فى لعب دورها كوسيط نزيه، حيث دعمت إسرائيل كطرف مهيمِن، بشكل غير عادل، على حساب فلسطين «الطرف المهمش». وغالبًا ما كان الصراع محورًا للتوترات الإقليمية.

من المهم ملاحظة أن هذا الصراع يعود إلى جذور تاريخية وسياسية بالغة العُمق والتعقيد، تتجاوز تواريخ محددة مثل 7 أكتوبر 2023. وإذا كانت الأحداث فى هذا التاريخ قد أثارت ردود فعل، فإن الأسباب الجذرية للصراع تكمن فى الديناميات التاريخية والسياسية الأعمق بالنسبة إلى الأشخاص الذين عانوا عقودًا من الاحتلال.

فى 8 أكتوبر، تعرض الفلسطينيون لهجمات وصفهم خلالها من شنها بالإرهابيين، مُتجاهلين هويتهم الوطنية وإنسانيتهم ومعاناتهم الطويلة تحت الاحتلال. ومع تصاعد الصراع، وخصوصا فى غزة، ازداد الوعى العالمى بالرد غير المتناسب على الأحداث التى سبقت ذلك بيوم، ما دفع إلى فحص نقدى للتبريرات المقدمة للأفعال التى جرت على مدى الـ76 عامًا الماضية.

هذا التدقيق دفع المجتمع الدولى إلى إعادة تقييم موقفه. ومع مرور الوقت، ظهر تحول ملحوظ أدى إلى مزيد من التعاطف والتضامن مع محنة الفلسطينيين، وذلك بفضل التغطية الإعلامية الواسعة لوسائل التواصل الاجتماعى، ومعها وسائل الإعلام الرئيسة التى كشفت عن واقع الاحتلال القاسى، وتأثيره المستمر عبر الأجيال.

ومن المثير أن نرى «دولة الاحتلال» التى تؤكد هويتها اليهودية، تمارس دورًا يذكر بالهولوكوست، ما يحول الضحايا إلى جناة، ويفرض العواقب على الفلسطينيين، نتيجة الظلم التاريخى الذى تعرض له اليهود على يد أوروبا الغربية، إذ يدفع الفلسطينيون الثمن من خلال التهجير والقتل والإبادة الجماعية، حيث تتماشى أفعال إسرائيل بشكل كبير مع التطهير العرقى، والعقاب الجماعى، ما يجعلها مثالًا واضحًا لما يعرف بـ«دولة الأبارتايد».

• • •

على مدى 76 عامًا، استمر الصراع بين شعبين، يسعى أحدهما إلى استعادة أرضه، بينما يتمسك الآخر باغتصابها والاستيلاء بالقوة عليها. فتُرى إسرائيل من خلال عدسة الحركة الاستعمارية الاستيطانية، التى تعود إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى، تحت رعاية بريطانية خلال فترة الانتداب البريطانى على فلسطين.

خلال هذه الفترة، شهدت فلسطين اضطرابات كبيرة، تمثلت فى أعمال شغب ضد الحكم البريطانى من عام 1920 حتى عام 1936. بلغت هذه التوترات ذروتها فى حرب عام 1948، عندما دعمت المملكة المتحدة هجرة اليهود إلى فلسطين، من خلال وعد بلفور فى عام 1917، الذى تعهد بدعم إقامة وطن قومى لليهود.

لكن تحقق هذه الرؤية استغرق قرابة ثلاثة عقود. وفى أعقاب حرب عام 1948، أعلنت إسرائيل ما سمته «الاستقلال»، وحصلت فورًا على الاعتراف من المجتمع الدولى والأمم المتحدة. ومما يؤسف له أن فصيلًا فلسطينيًا بعينه حول جهوده إلى تحقيق مصالحة مع إسرائيل، وتبنى اتفاقية أوسلو، واعترف بوجودها رسميًا فى العام 1988.

ومع ذلك فإن اتفاقيات أوسلو التى وقعت فى البيت الأبيض فى عام 1993، قد استغلت من قبل إسرائيل لزيادة النشاط الاستيطانى بشكل كبير فى الضفة الغربية المحتلة، وقد سعت إدارة نتنياهو إلى تفكيك الاتفاقية منذ توليه السلطة، ما زاد الوضع تأزمًا.

وحاليًا، يجد الفلسطينيون أنفسهم فى موقف صعب، عالقين بين ما هو تاريخى حتمى، وما هو سياسى مستحيل، مع وجود حكومة يمينية راديكالية فى إسرائيل، لتبدو مفاوضات تحقيق الاستقرار والأمن فى المستقبل غير قابلة للتحقق.

وخلال سنة كاملة، دمرت إسرائيل بطائراتها الحربية غزة بشرًا وحجرًا، وسقط ما يزيد على الخمسين ألف ضحية من الفلسطينيين، أغلبهم من النساء والأطفال.. وهناك أكثر من 12,000 شهيد يعتقد أنهم تحت أنقاض المبانى المدمرة. والوضع المأساوى يتفاقم بفقدان 147 شخصًا على الأقل من موظفى الأُمم المتحدة، وتدمير 32 مستشفى، ما ترك عددًا قليلًا من المرافق الصحية العاملة بطاقات محدودة. علاوة على ذلك، تم تدمير جميع المؤسسات التعليمية، من مدارس وجامعات، وتم القضاء على معظم المواقع الدينية من مساجد وكنائس. ونتيجة لذلك، فإن حوالى 70% من البنية التحتية لغزة أصبحت فى خبر كان، ما يزيد من حدة الأزمة الإنسانية فى المنطقة.

• • •

ما الوصف الأنسب لحرب الإبادة هذه لدى حلفاء إسرائيل؟ هل هى حرب دفاعية كما تزعم هى؟ أم أنها حملة لقمْع شعب يسعى إلى التحرر من الاستعمار؟ لكن المرء سرعان ما يصطدم بمواقف المسئولين الأوروبيين والأمريكيين، فهم يعبرون بوضوح عن حق إسرائيل فى الوجود والدفاع عن نفسها باستمرار، ثم يختمون تصريحاتهم بالقول إن الحل الأمثل هو حل الدولتين، وهو ما رفضته إسرائيل جملة وتفصيلًا، وتسعى اليوم إلى السيطرة الكلية على القطاع وطرد الفلسطينيين من أرضهم التاريخية.

إذا كان قادة أمريكا وأوروبا يدعمون حقًا حل الدولتين، فلماذا يستخدمون حق الفيتو فى مجلس الأمن، لا سيما بعدما اعترفت قرابة 140 دولة بفلسطين؟ علاوة على ذلك، تتبع أوروبا غالبًا قيادة الولايات المتحدة فى هذا الشأن، ما يثير تساؤلات حول التوازن والعدالة فى نهجهم تجاه مسألة حل الدولتين.

واليوم، وإذ يُطالب الفلسطينيون بمبدأ أساسى من مبادئ حقوق الإنسان، وهو حق تقرير المصير، والعيش على أرضهم التاريخية، فإن السؤال الذى يطرح نفسه هنا: لماذا يدعم المجتمع العالمى هذا المبدأ بشكل عام، كما ورد فى المادة 16 من مبادئ وودرو ويلسون، ومع ذلك يتم تجاهله فى الشأن الفلسطينى؟ ما يدفعنا إلى التفكير فى ما إذا كان ينظر إلى الفلسطينيين على أنهم أقل استحقاقًا للاعتراف بسعيهم ليكونوا دولة مستقلة فى المجتمع الدولى. وأن أوروبا متمسكة بالعقلية الاستعمارية، لا سيما أن بداية المشروع الصهيونى فى فلسطين شهد بالفعل على منطقة متطورة بشكل ملحوظ، مقارنة بالمناطق المجاورة؛ إذ توفرت هناك بنية تحتية مثل الموانئ والمطارات، بالإضافة إلى اقتصاد مزدهر وزراعة قوية. على عكس الادعاءات التى أطلقتها شخصيات مثل جولدا مائير، التى زعمت أن فلسطين صحراء، لم تزهر إلا بعد وصول الصهاينة، فى الوقت الذى تُشير فيه الأدلة التاريخية إلى عكس ذلك. فهناك سجلات موثقة تدعم التأكيد على أن المنطقة كانت مزدهرة بالفعل قبل ظهور الحركة الصهيونية.

هذا الصراع المستمر منذ سنوات طويلة، لم يحرك ضمير المجتمع العالمى بشكل كاف. إذ غالبًا ما تم اعتباره نزاعا إقليميا، أو صراعا بين طرفين يتنافسان على الأرض نفسها. ومع ذلك، يؤكد الفلسطينيون أنهم لا ينازعون على الأرض، بقدر ما يؤكدون ملكيتهم المشروعة لها. وهُم يرون الصهاينة غُزاة، سعوا ويسعون للسيطرة النهائية على وطنهم. وبالتالى، فإنّ الصراع ليس مجرد قضية تنافس على أرض مشتركة، بل على عملية تسلل إلى ممتلكات الفلسطينيين العقارية ومزارعهم من قِبل المُحتل الإسرائيلى.

وفاء البوعيسى

مؤسسة الفكر العربى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved