عودة ترامب

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 11 نوفمبر 2024 - 6:20 م بتوقيت القاهرة

باكتساحه ماراثونًا رئاسيًا، كان الثالث من نوعه على التوالى؛ امتطى ترامب، موجة حمراء، منحته تفويضًا سياسيًا تاريخيًا. فلقد دحر مرشحتين رئاسيتين ديمقراطيتين، أولاهما، وزيرة الخارجية، هيلارى كلينتون، عام 2016؛ وثانيتهما، نائبة الرئيس، كامالا هاريس، هذا العام. وخلال معركة انتخابية شرسة، كانت الأكثر كلفة فى التاريخ، بإجمالى إنفاق ناهز 16 مليار دولار، شمل السباق الرئاسى، الذى أزهق قرابة أربعة مليارات، الانتخابات المحلية، انتخابات مجلسى الكونجرس، حقق ترامب فوزًا كاسحًا ومفاجئًا، غدًا على إثره الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة. الأمر، الذى اعتبرته مجلة نيوزويك، أعظم عودة سياسية فى التاريخ الأمريكى الحديث.

حصد ترامب، أكثر من 312 صوتًا فى المجمع الانتخابى، فيما جاوز 50% من أصوات الناخبين، ليصير أول رئيس جمهورى يفوز بالتصويت الشعبى منذ عقدين. وبانتزاعه ولاية ثانية غير متتالية، يكون ترامب خامس خمسة رؤساء سابقين سلكوا ذات الدرب، وهم: مارتن فان بيورين، عام 1836، جروفر كليفلاند 1892، تيودور روزفلت 1912، وهربرت هوفر 1932. كما يعد ثانى اثنين منهما، يبلغان مبتغاهما، عبر النجاح فى اقتناص ولاية رئاسية ثانية غير متتالية، بعد الرئيس الأسبق، جروفر كليفلاند، عام 1892. وللمرة الأولى منذ سنوات، يستعيد الحزب الجمهورى السيطرة على مجلس الشيوخ، بحصده 55 مقعدا، مقابل 45 للديمقراطيين، بعدما قهر غريمه الديمقراطى فى ولايتى وست فرجينيا وأوهايو. كما احتفظ بأغلبية مجلس النواب المتمثلة فى 218مقعدا. وبإحكامه السيطرة على مجلسى الكونجرس، سيتسنى لترامب، تطبيق برنامجه الانتخابى، عبر الوفاء بوعود خفض الضرائب، كبح التضخم، ولجم الهجرة غير النظامية فضلًا عن تعيين وزراء، مسئولين وقضاة جدد فى المحكمة العليا. لذا قال ترامب، فى خطاب النصر، الذى ألقاه من فلوريدا: «حققنا نصرًا سياسيًّا، لا مثيل له، سيسمح بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، ويعرج بها عصرًا ذهبيًّا».

مستفيدًا من تآكل الالتزام الحزبى فى السلوك التصويتى لناخبين كُثر، نجح ترامب فى اقتحام الحصن الانتخابى للديمقراطيين. ممثلًا فى ولايات الجدار الأزرق الصناعية والنقابية، التى طالما ظلت أكثر موثوقية للديمقراطيين، كمثل: بنسلفانيا، ميشيجان وويسكونسن، والنقطة الزرقاء فى نبراسكا. كما غزا معاقل ديمقراطية، على غرار فرجينيا ونيوجيرسى، ومناطق من كاليفورنيا ونيويورك. وإلى جانب استمالته ولايات عديدة منقسمة، تمكن، ترامب، من الفوز بغالبية الولايات السبع المتأرجحات. وبينما مالت ولاية جورجيا للديمقراطيين عام 2020، أعادها، ترامب، للفسطاط الأحمر، مقتنصًا 16 صوتًا بمجمعها الانتخابى. وبعدما نجح فى استمالة المقاطعات الريفية بولاية بنسلفانيا الحاسمة، ظفر بـ19 صوتًا بمجلسها الناخب. كذلك، تمكن، ترامب، من استقطاب ناخبى الضواحى المحيطة بالولايات، والتى جنحت للديمقراطيين منذ عام 2016. كما تسنى له اجتذاب ناخبى الأقليات من العرب، السود، اللاتينيين، علاوة على الطبقتين الوسطى والعاملة. وهى الشرائح الاجتماعية، التى طالما شكلت خزانًا تصويتيًا مهمًا، وأداة تعبوية انتخابية مؤثرة للحزب الديمقراطى.

فى سابقة هى الأولى فى تاريخ التجربة السياسبة الأمريكية، تم انتخاب رئيس سابق ملاحق قضائيا، لأعلى منصب فى البلاد. ففى يونيو الماضى، أدين، ترامب، بـ34 تهمة جنائية ضمن قضية تقديم رشى مالية بنيويورك. كما يواجه اتهامات تتعلق بمحاولة تزوير الانتخابات واقتحام مبنى الكابيتول فى السادس من يناير2021. وهى أخطر التهم الموجهة إليه؛ كونها قد تفضى، حال إدانته، إلى سجنه. وإذا ما عجز عن تجنب السجن بعد استنفاد السبل القانونية، فقد تتصاعد الدعوات لعزله مجددًا أو إقالته وفق التعديل الدستورى الخامس والعشرين. وإن نجا من العزل، فسيضطر إلى خوض غمار إدارة البلاد من وراء القضبان.

بطرائق شتى، تعامل ترامب مع وضعه القانونى الشائك. فبداية، استفاد من عدم حرمان الدستور أى شخص مدان، من الترشح لشغل مناصب قيادية، بما فيها رئاسة البلاد، بل وحكمها من محبسه. كما استفاد من قانون نيويورك لعام 2021، الذى يسمح للأشخاص المدانين بجرائم جنائية بالتصويت، طالما كانوا لا يقضون عقوبة السجن أثناء العملية الانتخابية. ومنذ بداية إدانته فى عام 2023، استهدفت الاستراتيجية القانونية لترامب، تأجيل المحاكمات إلى ما بعد الانتخابات؛ حتى يتمكن، إذا ما فاز فيها، من إقالة المستشار الخاص، جاك سميث، بما يؤدى إلى نهاية الدعاوى. أما محاموه، فيسعون إلى تأجيل الحكم لدى محاكم الاستئناف بالولاية، وربما المحكمة العليا، حتى يتم استنفاد جميع الاستئنافات؛ وهو الأمر، الذى قد يستغرق شهورًا. ولن يتردد محامو ترامب، فى تتضمين استئنافاتهم ركائز دستورية تشكك فى صلاحية قاضى الولاية للحكم على الرئيس المنتخب، ما قد يطيل أمد القضايا لسنوات.

أما قائمة الدعاوى المدنية التى يواجهها، ترامب، فمن المحتمل أن تستمر حتى مع توليه، رسميًا، مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة. حيث أصدرت المحكمة العليا عام 1997، حكمًا فى دعوى مدنية تورط فيها الرئيس الديمقراطى، وقتئذ، بيل كلينتون. وقد قرر القضاة، بالإجماع، عدم أحقية الرؤساء الحاليين الاستعانة بالحصانة الرئاسية، لتجنب التقاضى المدنى، أثناء وجودهم فى مناصبهم. وفى نهاية المطاف، قد يُحال النزاع إلى المحكمة العليا، المكونة من تسعة قضاة، بينهم ثلاثة عينهم، ترامب، الذى لن يتورع عن الاستثمار فى القضاة، الذين عينهم، كما الأغلبية المحافظة من قضاة المحكمة العليا، لإنهاء القضايا، التى يلاحق على إثرها. كذلك، يرتكن، ترامب، على تصويت الشعب الأمريكى لصالح السلطات الواسعة، التى سيحظى بها، وما يعتبره «شرعية ديمقراطية» تدعمها أغلبية انتخابية كاسحة. وسيستعين كذلك بتفسيره لحكم المحكمة العليا بشأن حصانة الرئيس وحقه فى العفو عن نفسه فى القضايا الفيدرالية. وقبيل الانتخابات الحالية، صوّتت المحكمة العليا لمصلحة حماية ترامب، من الملاحقة القانونية، جراء أمور اقترفها بصفته الرسمية، وهو ما منع، عمليًا، محاكمته، على خلفية حشده أنصاره، الذين هاجموا الكابيتول بعد هزيمته عام 2020. فبمجرد عودته إلى البيت الأبيض، يمكنه تعيين وزير عدل جديد يقيل المحقق جاك سميث، أو أن يأمر وزارة العدل بإسقاط التهم الموجهة إليه.

بمجرد تلويح، ترامب، بإقالته، انبرى المحقق الخاص بوزارة العدل، جاك سميث، فى بحث سبل إنهاء القضيتين الفيدراليتين قبل أن يتسلم الرئيس المنتخب منصبه، استنادا إلى أعراف وزارة العدل، التى تقضى بعدم جواز محاكمة الرئيس خلال فترة رئاسته. وقبل أيام قلائل، ألغت القاضية بمحاكمة، ترامب، تهمة محاولته غير القانونية لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2020، استجابة لطلب تقدّم به المدعى الخاص. ما يشى بإمكانية تعليق الإجراءات، التى كانت مقررة ضد ترامب. وبرر المدعى الخاص، جاك سميث، طلبه بأن، ترامب، سيتم تنصيبه رئيسًا يوم 20 يناير المقبل، إضافة إلى ضرورة منح الادعاء وقتا لدراسة هذا الوضع غير المسبوق، توطئة لتحديد المسار الواجب اتباعه؛ مع الأخذ فى الحسبان سياسة وزارة العدل، التى تبنّت، منذ أكثر من خمسين عامًا، تقليدًا يقضى بعدم مقاضاة الرؤساء أثناء مباشرتهم مهام مناصبهم، وأعلن سميث أنه سيقدم نتيجة مداولاته بشأن وقف الملاحقات الفيدرالية ضد ترامب بحلول الثانى من ديسمبر المقبل. وهو ما سيتيح للرئيس المنتخب الإفلات من الملاحقة القضائية الفيدرالية، على الأقل حتى نهاية ولايته الثانية.

يتبارى بعض من عملوا فى إدارة ترامب، الأولى فى التحذير من عودته. ففى حين يراه رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال ميلى، خطرًا على الديمقراطية. يعتبره وزير الدفاع السابق مايك أسبر، أكبر خطر على أمريكا، فيما سلط مستشار الأمن القومى السابق، جون بولتون، الضوء فى كتاب أصدره مؤخرًا، على مثالب شخصية ترامب، وعدم رشادة سياساته، محذرًا من مخاطر فوزه بولاية رئاسية ثانية.

أرجو ألا يجانبنى الصواب، حينما أزعم أن ترامب، الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، لن يكون كما ترامب، الرئيس الخامس والأربعين. فالرئيس، الذى سيكون، أثناء تنصيبه فى العشرين من يناير المقبل، أسن من سبقوه فى تاريخ البلاد، إذ سيشرف على التاسعة والسبعين من عمره؛ ربما يبدو أكثر خبرة، كياسة، مرونة، حسمًا، وقدرة على التفاهم. وبينما يرى روبرت أوبراين، آخر مستشار أمن قومى للملياردير الجمهورى، أن ولاية، ترامب، الثانية ستشكل عودة إلى الواقعية بنكهة جاكسونية، قد يغدو، الرئيس الجمهورى المنتخب، أكثر ميلا للانعطاف بالسياسات الأمريكية نحو «ترمبية»، تتجاوز النهج «الأوباموى»، الذى يكسوها منذ عام 2009. 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved