عندما كفوا عن الحلم
خولة مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 11 ديسمبر 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
كان هناك دم.. كثير منه لشباب وشابات هم فى عمر الزهور.. كان هناك حلم.. كثير من الاحلام اصطفت متراصة لوطن بحجم الكون.. كانوا هناك كثيرون منهم ومنا.. كنا واحدا اصبحنا أكثر من واحد فانتهى الوطن.. كلما تصورنا ان هناك مساحة لى ولك وله ولها قالوا ولكننا الاكثر.. كله بالعدد الا الاوطان لا تحسب بالاعداد بل بتعدد الالوان المتراصة جنبا إلى جنب.. قد تتداخل احيانا وفى اوقات يبقى كل لون بلونه.. لا يمحى واحد الاخر ولا يفقده رونقه.. ويبقى الاهم ان لا يسرقوا الحلم منا.. لا يسرقوا احلامنا كما كفوا هم عن الحلم.
كان هناك دم.. كثير منه.. وجاءوا هم كثرة حاملين بيد مفاتيح الجنات وبيد اخرى العصى الغليظة.. أغلقوا عوالهم منذ مدة وقطعوا صلاتهم بالكون.. كثيرا منهم شباب ايضا فى عمر الزهور ولكن سحبت منهم انسانيتهم عندما سرقوا منهم الحلم... انها شبيبة كفت عن الحلم، حينها توقفت عن تقبل الاخر وبدأت معركتها مع من سمتهم احيانا الكفرة واخرى اطلقت تسميات عدة قد تكون منها «علمانيين» «صليبيين» «عملاء».. أى احد غيرى لا يستحق شبرا من الجنة معى هكذا رددوا عليهم.. هكذا لقنوهم الدرس..شبر فى الجنة وفسحة على الارض.. لا يستحق قالوا لا يستحق. وراحوا يهرولون يقيمون الحد وينشرون فى الارض كلام قالوا انه كلام الله كان قد ردده عليهم كثيرا ذاك الشيخ القادم من مدن الجهل.. ذاك الذى فك الخط ربما منذ بضع لحظات واصبح واعظا برتبة «شيخ»!
كان هناك دم.. كثير منه هنا على طرقات تلك الضاحية المسترخية فى حضن الشجر وزغزغة العصافير قبل ان يحولوها إلى ساحة معركة اخرى من غزواتهم.. هم من كفوا عن الحلم لا يعرفون معنى الزهرة ولا يستظلون بشجرة وافية كانت هنا قبلهم ولكل جذع منها ذكريات مع اطفال وشباب مارسوا الكثير من المرح والضحك تحت غصونها.. هم حولوا اغصان الاشجار إلى آلات للقتل.. انها المرة الاولى التى تعرف فيها نساء هذه الضاحية ان اشجارها قد تقتل ابناءها! وقفت هى فى شرفة شقتها المستظلة بشجر وارف هو اخر ما تبقى من تلك اللحظات الجميلة الماضية لم تستطع سوى ان تصرخ من هول الصدمة.. «هذه شجرتنا نحن» قالت ومضت تصرخ «هنا ذكريات طفولتى.. هنا ذكريات مدينتى.. هنا بقايا وطنى. خوفها من ان يسرقوا ذكرياتها واحلامها ووطنها هو الذى دفعها ان تتشح بالسواد وتلتحق بركب محبى الحرية المتراصين الواقفين خلف الفرح.. عندما قطعوا الغصن الاول سقطت دمعتها الثمينة واغتسل وجهها بكثير من ملح دموعها الدافئة.. سكبوا الدم الطاهر فوق صور كثيرة متراصة من زمن جميل كان. ذاك لم يحم الصور بل عادت لتتجدد بدمهم وتعيد تكرار لن تسرقوا وطنى ابدا لن تسرقوا الذكريات والاحلام.
●●●
لم ترتو الارض بعد.. فقد اغتسلت الميادين، كل الميادين بكثير من الدماء الطاهرة قبل عامين أو اكثر وبدلا من ان تنبت زهرة بل الف زهرة وزهرة راحوا ينثرون الدم على ميادين المدن.. وزعوها بالتساوى على الجميع وكأنهم يقولون «لن يفلت منكم احد»!
كان علينا ان نعيد قراءة التاريخ، ليس التاريخ البعيد بل القريب جدا والاقرب جغرافيا... بعض ما يحدث هنا كان هناك.. انهم فى كل مكان يملؤون الكون بالصراخ كثير من الاصوات العالية والوجوه الغاضبة لا تسألوا لما هم غاضبون؟ فلا احد يعرف لما كل هذه الكراهية ربما بدأت هناك قبل سنين عندما توقفوا عن الحلم ووضعوا فرمانات الممنوعات الطويلة.. يقول ياسمينة خضرا فى روايته الرائعة «خرفان المولى» فى وصفه «للائحة الممنوعات.. على ملصقة اليسار، يبدأ البيان بحديث شريف ويسجل السلوكات التى ينبغى للمؤمن أن يمتنع عن ممارستها. إضافة إلى المحرمات التقليدية المشهورة، دونوا المحرمات الجديدة مثل الحمام العمومى، وقاعات التجميل والحلاقة النسائية، ارتداء التنورة، المساحيق، الموسيقى، قراءة الأبراج والتدخين وقراءة وشراء وبيع الصحف والمقعرات الهوائية وألعاب الحظ والشواطئ....الخ» تطول القائمة باختصار هى كل ما يسمى حياة.. هى كل ما كان يقيم هنا متلاصق بسجادة الصلاة.. هنا كانت كثير من الجوامع تلاصقت حتى اصبحت جزءا من ذكرياتنا اليومية وذاكراتنا البصرية ومعها وبالقرب منها سكنت المقاهى والملاهى وكثير من الضحك وتلاوين الكون كانت هنا ايضا.. اه كم اشتاق إلى مدننا التى كانت، كم احن إلى مدن التسامح قبل عودتهم حاملين تفاسيرهم الخاصة للدين الاوحد.