الليبرالية والعياذ بالله
طلعت إسماعيل
آخر تحديث:
الإثنين 12 فبراير 2018 - 10:45 م
بتوقيت القاهرة
الوقت يقترب من منتصف ليل يوم شتوى فى نهاية تسعينيات القرن الماضى حين كنت أجلس داخل مكتبى بإحدى الصحف العربية، عندما جاءنى حاملا بروفة الصفحة الأخيرة، مع اقتراب انتهاء العمل.. وسط سكون الغرفة، مال على العامل البسيط وهو يتلفت يمينا ويسارا حتى كدت أرتاب فى أمره قبل أن يهمس بصوت خفيض، خشية أن يسمعه أحد، قائلا: «والعياذ بالله.. والعياذ بالله والعياذ بالله، هو إيه العلمانية دى يا أستاذ؟».
كدت أنفجر من الضحك، لكن منعتنى جدية الرجل، غير أننى لم أمنع نفسى من الابتسام وأنا أشرح له مفهوم العلمانية بكلمات بسيطة بما لا يخل، ومشيرا إلى أنها « نظام فلسفى اجتماعى وسياسى، نشأ فى أوروبا كنتيجة للصراع بين رجال الكنيسة والعلوم، انتهى بفصل الدين عن الدولة، بمعنى منع تحكم رجال الدين فى مؤسسات ومصالح الدولة».
وكما هو سائد لدى غالبية البسطاء قال الرجل: «يعنى الدولة تبقى ملحدة»!!، وخشية تأخر طبعة الجريدة، لم يسعفنا الوقت لأشرح له باستفاضة أن هناك فرقا بين فصل الدين عن الدولة والإلحاد، وأن الإيمان والإلحاد شأن فردى، «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وحساب الجميع عند الله، وليس لأحد الحق فى إكراه الناس على اعتناق عقيدة معينة.
مضمون هذا الحوار تقريبا دار بينى وبين أحد رواد معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى اختتم فاعلياته قبل أيام، لكن هذه المرة عن «الليبرالية»، فقد اقترب منى رجل فى العقد الرابع، عريض المنكبين، ذو لحية صهباء، من أثر الحناء على ما يبدو، بعد أن لمح فى يدى كتاب الزميلة الصحفية والباحثة إيمان العوضى عن «الفكر الليبرالى فى مصر 1919 ــ 1961» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
بكلمات خجولة، مال الرجل على متسائلا: هل قرأت عن الليبرالية شيئا من قبل؟، وعندما رددت عليه بالإيجاب، طرح سؤالا جديدا: «طيب يعنى إيه الليبرالية؟، وقد علت جبهته علامات التشكك والحيرة فى معنى الكلمة التى ربما يسمعها كثيرا على ألسنة المثقفين وضيوف الفضائيات، أو قرأها فى أعمدة الصحف.
تنحينا جانبا فى جناح هيئة الكتاب الرئيسى لأشرح له مفهوم الليبرالية باختصار شديد كونها فلسفة سياسية تعلى من قيمة الفرد والحريات العامة، والتنوع والتعددية وحقوق الإنسان، وتقلص من تدخل الدولة فى حياة الأفراد، وتطلق العنان للاقتصاد الحر القائم على المنافسة فى الأسواق، لكن الرجل قال بنبرة حادة إن « الإلحاد» هو كلمة الربط بين العلمانية والليبرالية، وإن كل ليبرالى أو علمانى ملحد!!.
عبثا حاولت أن أوضح للرجل أن الليبرالية ليست مرادفا للإلحاد، لأخرج من حوار الطرشان، وكلى أسف لفشل نظامنا التعليمى، وعجز وسائل إعلامنا ومثقفينا عن شرح المفاهيم، ونقل الآراء المتنوعة بموضوعية، والمساعدة فى خلق العقلية النقدية التى تستوعب ما يدور حولها، وتقبل بالرأى الآخر ولا تخلط الأوراق، وتفرق بين العلم والخرافة، ولا تنصب من نفسها رقيبا على المختلفين معها فى المواقف.
وبالعودة لكتاب «الفكر الليبرالى فى مصر» الذى قدم له الدكتور عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث، تقدم إيمان العوضى بحثا قيما يستحق القراءة، ويلبى شغف المعرفة، تخلص فيه إلى أن مصر لم تمر بـ«تجربة ليبرالية» على عكس ما هو شائع، بل شهدت ظهور مفكرين ليبراليين.
وعقب شرح بانورامى لمفهوم الليبرالية بشكل عام (نشأتها وتطورها على يد الفلاسفة والمفكرين الغربيين)، عرضت العوضى بلغة سلسة وسرد جميل لنماذج من دعاة الفكر الليبرالى فى مصر أمثال أحمد لطفى السيد، والشيخ على عبدالرازق، والأديب نجيب محفوظ، قبل أن تقدم نماذج لحركة الأحزاب ذات الفكر الليبرالى فى مقدمتها الوفد، والأحرار الدستوريين.
وعلى الرغم من اختلافى مع الفكر الليبرالى، خاصة فى شقه الإقتصادى الذى يسحق الفقراء، أعتقد أننا فى حاجة ليس إلى المزيد من الأبحاث فى هذا الاتجاه فقط، وإنما إلقاء الضوء على كل الأفكار والنظريات السياسية، عل الناس تتبصر طريقها، ويتشكل تيار يسترد الوعى المفقود، فى مجتمع يمور بتحديات تحتاج إلى التسلح بالعلم والمعرفة.