وقفت هى عند مدخل ذاك المبنى الكبير، كانت هى تتأمل بعينين واسعتين أفواج النساء القادمات المزخرفات بكل ذلك الذى لا تعرفه ولن تعرفه.. هى ليست الأم المناضلة وليست ابنة الوزير أو النائب أو المناضل أو حتى زوجته أو أخته؛ هى ــ فقط ــ كما هى ببعض ما تبقى لها مما يستر عريها بعد رحلة طويلة مع الفقر والعوز والتعب وكثير من الانتهاكات..
هى الواقفة على الرصيف أو بعضه أو عند أطراف الكون يقال: إنه يومها.. وهى لا تعرف ماذا يعنى أن يكون يوم بالعام الطويل المتعب الملىء بكثير من الموت والتعب والألم والاغتصاب، هو يومها هى أيضا!
هل هو يوم لأم البطل؟ لأم الشهيد؟ لأم المناضل؟ أم لأخته أو ابنته؟ أو حتى زوجة النائب الذى كان أو الوزير أو القائد؟ هى فقط امرأة من مجموع كبير منهن.. كل ما تعرفه أنها واحدة منهن.. من كمٍ كبير من نساء لم يعرفن سوى كثير من الجهد والصبر والعناء المفعم بالحزن المعتق فى قلوبهن.
هى ليست تلك التى بدأت مشروعا بالآلاف أو الملايين من تركة أحدهم أبا كان أو أخا أو ابنا أو حتى زوجا.. لا! فكل ذلك بعض من الرفاهية التى لم تعرفها وحتى عندما ولدت وفى فمها بعض من ملاعق الذهب التى راحت لإخوتها أولا فبقى لها فضل منه أو بقاياه!
هى تلك التى لم تعرف معنى النضال من أجل الحق.. فقط وقفت صامدة تدافع عن أبنائها أو إخوتها أو بعض بيتها، وعندما لم يعد هناك بيت بنت من بعض ملابسها بيتا لأحبتها كانوا أطفالا هم أم إخوة أم أهلا.. هى التى وقفت فى البرد القارس تدفئ أطفالها بما تبقى من سخونة فى جسدها.. تجلس على حافة الطريق تحضنهم بين أضلعها ثم تطعمهم بقايا طعام أو ماء استخسرته فى نفسها.. هى الظمآنة والبحر والنهر حولها.. هى الجوعى والشجر يثمر الكثير ما بين خطوات قدمها.. هى تلك التى تخبز الرغيف الساخن مع برودة طقس شتوى لا يعرف معنى العوز، والأنثى هى المسئولة عن توفير الدفء فيه!!
***
هى لم تقد سيارة فى حياتها ولم تعرف معنى ركوب الطائرات.. وعندما ركبت القارب كانت تتصور أنه سينقذ أطفالها من جحيم الموت، وبناتها وأخواتها من نار الاغتصاب.. وعندما علا عليها الموج الذى كانت تتصور أنها أقوى منه رمت بنفسها لتكون القارب الذى يحمل أحبتها إلى بر الأمان..
هى.. التى عندما قرر الرجال الرحيل أو القتال لم يكن لها رأى ولا شأن بل كثير من الألم والوجع ومع ذلك وقفت هناك حيث تصورت أن عليها أن تكون هناك ربما لبعض الوفاء أو ربما لكثير من الحب أو حتى لأنها تعرف أنها البقاء وأنها الاستدامة لكل فرد من عائلتها.. دونها لا مكان ولا بقاء لهم.
وهى أيضا عندما رمت بها الأيام ــ أو هم أيضا ــ تصورت أنهم يحبونها حتى الفناء ــ فى حضن الآخرين وبين الأرصفة من أجل بعض من المال أو كثير من الجاه، لم تقبل ولم توافق.. فقط تصورت أنها إن لم تبع جسدها بعض الوقت فمن يطعم أسرتها ــ كل أفراد أسرتها ــ كثيرا من الوقت؟
هى التى وقفت مع جارتها وصديقة طفولتها عندما اختلفوا هم جميعا! لم تعرف لماذا تقاتلوا وحملوا السلاح فى وجه بعضهم البعض ولماذا استباحوا الدماء الطاهرة وعندما قالت ما قالته لم يسمعوا لها لأنها فقط امرأة!
هى لم يحتف بها أحد فى ذاك الذى يقال إنه يومها، فيما وقفن هن يتخايلن بكثير مما ورثنه عن أب أو أخ أو زوج أو ابن.. فيما بقيت هى.. هى التى قامت بكل ذلك وحدها.. وحدها دون أى أحد خارج تلك القاعة وتلك الاحتفالية المبهرة..
***
لهن.. لكل تلك النساء الجالسات عند حافة الحياة نقول: أنتن من تستحقن كل أيام السنة لتكن لكن، وليس يوم واحد ترفع فيه الأعلام وتعزف فيه الموسيقى وتتلون السماء بكل الألوان إلا لون قلوبكن المفعمة بالدفء النادر.