رواية لم تكتمل
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 12 أبريل 2020 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
ولدت الفكرة عند بحيرة جنيف والوقت مساء والمشاهد مشابهة للصور فى «البوست كارد» بعض البياض المتبقى من بعد شتاء مثلج وشجر بدرجات الأخضر مزين بكثير من ألوان الزهر الربيعية ثم ينتقل المشهد إلى البحيرة حيث كنا.. هناك ولدت فكرة رواية مشتركة ليست هى التجربة الأولى بل كثيرون قاموا بها منذ سنين طويلة إلا أننا جميعا نتذكر تجربة «عالم بلا خرائط» لـ «جبرا ابراهيم جبرا» و«عبدالرحمن منيف»، حيث كان المميز فيها أن الكاتبين المبدعين اشتركا فى رواية ولم يكن أحد من القراء قادرا على أن يعرف من كاتب أى فصل خاصة وأنهما لم يكونا فى مكان ــ جغرافيا ــ واحد..
***
قال ذاك الجميل كاسمه أليس للبعض نصيب من أسمائهم، هو كان نصيبه من اسمه كبيرا جدا، قال «ايه رأيك فى رواية مشتركة يا بت» وتسمية «بت» هو اسمى الذى أعطانى إياه منذ قبل سنين طويلة.. لم تعجبه ضحكتى فصرخ «انا بتكلم جد» ودخلنا فى نقاش طويل لم أستطع أن أقنعه أنه من أهم الروائيين العرب وأنا لست حتى فى درجة مبتدئة.. بعد أن تعب من النقاش، قام فجأة واتجه نحو كشك قريب وعاد بعلبتين من الآيس كريم، بعض منه توقف عند سنة المراهقة وربما الطفولة.. سخرت أنا من رشوته وهذا أيضا لم يعجبه وعاد إلى الحوار وطلب أن أمسك بورقة وقلم وأن أبدأ فى الكتابة ونحن هناك وساعات المغرب تقترب ولكن شيئا من العتمة لم يقترب من تلك الدائرة التى كنا فيها.. من هناك بدأت الفكرة ومضينا فيها فصل من عنده وآخر منى وكل فى مدينة أو ضاحية أو قرية.. ولكن فى مرحلة ما سرقتنا الأيام إلى مفترقات مختلفة، هو فى عمله الصحفى الذى كان بالنسبة له شريانه المتبقى مع مصر كما أنه ومع الوقت بدأ يتعب من عينيه ونظره يتلاشى تدريجيا..
***
«جميل عطية إبراهيم» ودعنا بالأمس وبقى خبر وفاته مدسوسا بين كثير من قوائم الوفيات بسبب ذاك الفيروس حتى أصبحت نشرات الأخبار كأوراق النعى.. جميل صديقى الذى أفتقده حتى الوجع رحل هكذا فى مكان بعيد عن ذاك الدفء المتوهج فى شوارع القاهرة القديمة حيث كان يقضى معظم إجازاته.. صديقى الذى لم أره رغم محاولاتى وكل الأصدقاء المقربين لاختفائه بسبب المرض ربما أو يمكن لأنه لم يشأ إلا أن تبقى صورته مع ضحكته المدوية وجسده الصغير يهتز حتى يصاب بنوبة من السعال والسيجارة لا تسقط من بين أصابعه يمسك بها وكأنه ممسك بالزمن لا يريده أن يتحرك..
***
كلما يأتى الربيع يغط ذاك الطائر الطيب الجميل فى مدينته حتى عندما ضعف نظره لم يتوقف عن الزيارات المطولة.. يرن الهاتف فيأتى صوته «يا بت أنا وصلت القاهرة لازم أشوفك» فيكون اللقاء على مائدة محاطة بكل الكتاب والفنانيين فى قهوة زهرة البستان، يدير ظهره لكل الشلة ويهطل مطر الأسئلة من بعض الغزل المغلف بالفضول إلى الاطمئنان على العمل والصحة والعاطفة!!! ثم وبعد بداية تلك الرواية التى لم تكتمل نعود لها ويدخل فى نقاشات تقنية وأخرى تطال الشخصيات فى الرواية بين من يضحك وفجأة يصرخ فى النادل «جيب شاى كشرى على ميه نظيفة يا..» يجرى ذاك النادل الذى حفظ كل الطلبيات «حلبه» أحيانا وقهوة بوش كثيرا.. لا يكمل جمله لكثرة التحية والسلام من كل الرواد التقليديين لتلك القهوة أو حتى الكثير من الشباب المار فى الطريق والذى ينظر لتلك القامة الأدبية بكثير من الاحترام والتقدير وهو يبقى على تواضعه وبساطته التى لا تمت للكثير من الكتاب بصلة..
***
جميل ابن الجيزة، المصرى حتى آخر ضحكة، والروائى والكاتب والمحب والصديق الصدوق وكل صفات الجمال، رحل هكذا بعد وقت من بحثنا عنه ومحاولاتنا لزيارته فقط لنقول له «أنت معنا وستبقى رغم البعد»..
***
فى إحدى المرات وعلى غير عادته اتصل من سويسرا وردد ونحن لا نزال ننقش فى تلك الرواية التى لم تكتمل ولن تكتمل، مطالب بأن أتواصل مع دور النشر لمعرفة من سيكون على استعداد لنشر هذه الرواية.. لم أعرف أن أتواصل مع أحد أو ربما لم أحاول بكثير من المثابرة وفى صباح يوم جمعة جلست أتصفح الجرائد وكانت الأهرام والصفحة الثقافية.. صفحة كاملة للفصل الأول من الرواية المشتركة للروائى المصرى جميل عطية إبراهيم..
رحل جميل وروايتنا لم تكتمل..
***
صحفى فى الأمم المتحدة فى جنيف ومن أهم كتاب الرواية فى العالم العربى. كما صديقه الذى عاش فى جنيف أيضا، شكلت البحيرة جزء من تفاصيل حياتهما هناك وربما هى التى خففت من غربتهما فى بلاد الثلج والشوكولاتة.. بروح لا تملك إلا كثير من خفة الدم المصرية والثقافة والتجارب العميقة..