الشرق الأوسط ــ لندن أى مستقبلٍ للكتابة فى ظل الذكاء الصناعى؟
صحافة عربية
آخر تحديث:
الإثنين 12 أبريل 2021 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
نشرت جريدة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة ندى حطيط، تقول فيه إن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وصلت لمجال كان يعتقد أنه حكر على الأفراد فحسب، وهو مجال الكتابة. وتتساءل فى نهاية مقالها هل وصول التكنولوجيا لهذا المجال سيكسر حاجز الإبداع البشرى فى مجال تسجيل الخبرات الإنسانية عبر الرواية والشعر... جاء فيه ما يلى:
لا يسهل أبدا تقييم التأثيرات المُستقبلية التى قد تأتى بها الثورات التكنولوجية إلى العالم. فمن كان يصدق أن التليغراف سيغير إحساس البشر بالزمن، بعد أن كان خبر هزيمة نابليون فى معركة واترلو استغرق شهورا عدة قبل وصوله إلى آسيا، وأن القطارات التى مُددت لتصل إلى جنوب إيطاليا مع شمالها بدايات القرن العشرين فتحت الباب أيضا لانتشار مافيا الجريمة المنظمة، وأن السيارة ستصبح سيدة التخطيط الحضرى والمدنى بلا منازع، وأن تطور الطيران الجوى سيجلب معه إلى جانب فوائد القرية الصغيرة انتشارا معولما للفيروسات ليس له مثيل فى التاريخ، فوصل «كوفيد ــ 19» إلى جميع أصقاع الأرض خلال أسابيع قليلة فحسب. ومع ذلك، فإن البشر لا يتوقفون عن اقتراف مزيد من التوقعات حول كل ثورة تكنولوجية جديدة يعيشونها. فهم إما يتصورون تغييرات تنتج عنها فى المدى القصير بأقرب مما قد يحتاجه تبلور الأمور، أو يقللون من شأن ما يمكن لتحولات التكنولوجيا أن تفعله فى عقد من السنين.
ومع ثورة الذكاء الصناعى التى انطلقت قبل ستين عاما تقريبا، سارع كثيرون إلى تصور عالم يأتى سريعا تستغنى فيه الآلات المتطورة عن كل جهد بشرى، ليتفرغ الناس بعدها إلى قضاء أوقاتهم فى التبطل والتثقف. فيما لا يكاد أحد يصدق اليوم ورغم توارد الشهادات عن وجود أنظمة مراقبة متطورة تمتلكها دول كبرى بالفعل، بإمكانها إجراء تطابق فى أقل من ثانية واحدة على أى شخص فى العالم من خلال بصمة وجهه التى قد تلتقطها كاميرات الطرق أو المعابر ومقارنتها بأى صور سابقة له تتوافر على أى قاعدة بيانات إلكترونية حكومية كانت أو على أى من تطبيقات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى.
***
فى هذه المنزلة بين التوقع المتسرع والاستيعاب المتأخر يأتى ذلك التطور الذى يجمع بين تعملق سرعة الحواسيب وقدرتها على التعامل مع حجم هائل من المعلومات الذى يمنح منظومات الذكاء الصناعى الجرأة على الاقتراب مليا من مساحة أخرى طالما اعتبرناها حكرا على صفوة الأفراد ونتاج إبداع لا يمكن تخليقه فى الأجهزة: الكتابة. وها هى شركات التكنولوجيا تخترق جدارنا الأخير عبر عدة تطبيقات يمكنها تقديم خدمات «مكتوبة» أدق وأسرع مما يقدر عليه البشر.
الشركة المالكة لـ«جوجل» استحوذت العام الماضى على «جيت باك» وهو تطبيق ذكى قادر من خلال جمع معلومات وصور محدثة لحظيا عن الإنترنت من إنتاج دليل للأحياء والمدن والأماكن والحصول منه على معطيات فورية، بحسب بحث القارئ. فإذا كان المستخدم يبحث مثلا عن مقهى يرتاده الشباب من عمر معين ومستوى اجتماعى ما فسيقدم له أفضل الخيارات الممكنة، وأقرب الطرق إليها، وكل وصف قد يحتاجه لقضاء وقت على قياس مزاجه بما فيها صور وخبرات مرتادين، بعضهم ما زال فى المقهى حتى تلك اللحظة، من خلال ما ينقلونه تطوعا أو غفلة على مواقع التواصل الاجتماعى المختلفة. والأمر شبيه فى كل موضع للاهتمام بالمدينة سواء موقعا أثريا أو مسرحا عاما أو ناديا للسهر أو مطعما إثنيا أو سوقا للماركات المحلية. وهذا يعنى بكل بساطة أن صناعة الخرائط السياحية وأدلة السفر الملونة فى مئات الصفحات ستنقرض ليس خلال عقد مقبل، وإنما فور انحسار موجة الوباء الأخيرة واستئناف الجمهور العريض فضوله لرؤية طرائق عيش الآخرين.
خطوة «جوجل» تلك جاءت بعد أسابيع فقط من شروع وكالة «أسوشييتد برس» فى الاستعانة بتطبيق ذكى لكتابة الآلاف من التقارير والمقالات الفورية عن موضوعات ذات طابع تقنى مثل حركة أسواق الأسهم والسندات وإعلانات أرباح الشركات وما قاربها. التطبيق الذى يحمل اسم صائغ الكلم «ووردسميث» ينتج نصوصه بكفاءة مفصلة إلى حدود النقطة فى أجزاء من الثانية، الأمر الذى يعنى بالمحصلة حصول القراء على التحديثات فور حصولها تقريبا مع الاستغناء شبه الكلى عن تدخل الصحفيين أو المحررين البشريين وإمكان إنتاج التقارير ذاتها بلغات وأنماط ومقارنات مفصلة بحسب حاجات القارئ الواحد إن تطلب الأمر.
وقد يجادل البعض بأن ذلك ممكن ربما فى التقارير تقنية الطابع، ولكنه قد يكون قاصرا على مجاراة المعمار اللغوى لكتاب معينين لديهم أسلوبهم المتفرد وقدرتهم على توصيف الأحداث. وهذا نقد مستحق ربما للصيغة الحالية من «صائغ الكلم»، لكن منصة الأنثروبومورفايزد التى طرحتها شركة منافسة قادرة الآن على نشر مواد مكتوبة قريبة من اللغة الطبيعية، وهى تنتج سنويا عددا أكبر من التقارير الصحافية التى يدبجها كل الكتاب الصحافيين فى العالم معا وبتكلفة تقل عن 10 فى المائة من تكلفة رواتبهم الشهرية. ومع أن أصحاب رؤوس الأموال الذين يستثمرون فى مثل هذه التطبيقات يعتبرون أنها تساعد لناحية تحرير كتاب الصحف والمجلات من الأجزاء المملة فى عملهم وتمنحهم الوقت والطاقة للتركيز على الجوانب الإبداعية، فإنه لا أحد منهم لديه شكوك فى حتمية خسارة قطاع عريض من المحترفين لوظائفهم لمصلحة التطبيقات الجديدة، إن لم يكن اليوم فغدا بالتأكيد.
***
هذا الغد الآتى سيرتبط بقدرة هذه التطبيقات على التقاط كم هائل من نقاط الارتكاز المعرفية فى وقت قياسى من مختلف قواعد البيانات، لتصوغ مقالات محترفة وفق هيكلية معدة سلفا وبلغة مقبولة للغاية، ربما ليست بمستوى إبداع وليم شكسبير أو أبى الطيب المتنبى، لكنها مع ازدياد تنوع البيانات وتراكم تعقيدها، يمكن للخوارزميات فى مستقبل منظور أن تبدأ بإنتاج الكتابة ببصيرة تقترب من خيالات البشر، وربما فى مرحلة ما ــ انطلق العمل عليها فعلا ــ تجاوزه فى مجالات مثل تغطية الحروب والكوارث الطبيعية والمباريات الرياضية وحتى الأنشطة الاجتماعية.
تقوم بعض التطبيقات الذكية الآن بجمع المعلومات عن التجارب الحسية البشرية المحصلة بالحواس الخمس. ولدى شركات التقانة اليوم خوارزميات تحلل الأصوات والموسيقى وتقرأ الصور والتحديثات المكانية والانفعالات والمعطيات البارزة فى شكل الوجه أو ردود الأفعال أو صدق الابتسامة، ونوع النشاط الاجتماعى المشترك ويمكنها تاليا كتابة تقرير مفصل حول الأجواء السائدة فى معلم جغرافى معين كمطعم أو ملعب لكرة القدم أو شاطئ البحر. وهذه باستطاعتها إنتاج تقارير فورية عن المظاهرات العامة بما فى ذلك أعداد الأشخاص وفئاتهم العمرية أو الاجتماعية وهتافاتهم واليافطات التى يحملونها وتطور الأوضاع خلال المظاهرة وأجواء المشاركين فيها وربما تعليقاتهم فيما بينهم عليها فى الأيام اللاحقة. وتقوم المؤسسات الإخبارية على نحو مزداد بتجربة الدرونات التى يمكنها نقل الأحداث مباشرة من مواقع أماكن يصعب الوصول إليها من قبل المراسلين، لا سيما أثناء الحروب والاشتباكات. وتجرى شركات تقنية أمريكية تجارب لجمع معلومات عن السير التفصيلى للمباريات عبر تركيب مجسات استشعار متناهية الصغر تحت ملابس اللاعبين. ويمكن لهذه الأجهزة أن تجمع كما لا نهائيا من البيانات الفورية عن تقدم الأحداث فى اللعبة عبر تتبع حركة اللاعبين وانفعالاتهم «سرعة تصادمهم، وقوة ضربات أقدامهم وهكذا»، مترافقا مع مسح الأصوات والصور لتنتج مادة ثرية يمكن فى لحظتها لتطبيق مثل «صائغ الكلم» تحويلها إلى مقال عاجل للمهتمين يتم تحديثه دوريا بحسب تغير المعطيات، وهو أمر يفوق بالتأكيد قدرة أى مراسل صحافى.
ولتعزيز قدرة التطبيقات مثل «صائغ الكلم» على إنتاج محتوى ذى نكهة شخصية ــ بنبرة ساخرة مثلا أو بلهجة محلية أو وفق مصطلحات صناعة محددة ــ فإن قواعد بيانات هائلة يتم تجميعها حول التعبيرات الساخرة واللهجات المحكية، ومن ثم ربطها بالتعابير اللغوية المستخدمة فى ملايين النصوص المكتوبة مسبقا حول أحداث مشابهة.
***
لكن، حتى لو وصل الأمر بالأجيال المُقبلة من «صائغ الكلم» وإخوته إلى إنتاج كتابة ساخرة محلية وافية الإلمام بالحدث، فهل سيمكنها فى لحظة ما كسر حاجز الإبداع الإنسانى الأخير فى فضاء تسجيل المشاعر والخبرات الإنسانية الذاتية عبر الرواية والشعر: تجربة الحمل والولادة، وحزن الفقد والموت، ومشاعر الفرح والرغبة، والإحساس بالعجز أمام عبث الوجود؟ نظريا، ذلك ليس مستحيلا، وما قد يمنع تَطويره هو حصرا انعدام رغبة رءوس الأموال للاستثمار فى خوارزمية تكتب الرواية أو تنظم الشعر. فتلك بضائع كاسدة فى أيامنا، ولا تستحق اهتمام المستثمرين. ولعل كسادها وحده هو ما سينقذ مرتاديها من هجوم الخوارزميات الكاسح على الكتابة: لتظل قلعتنا الرمز الأخير فى مواجهة فيضان الأذكياء الآليين عديمى المشاعر.