جامعات غزة الشعبية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 13 أبريل 2025 - 3:29 م بتوقيت القاهرة

قبل عام بالتمام والكمال كتبت عن رياح الربيع التى هبت على جامعات العالم انطلاقا من الولايات المتحدة الأمريكية لمساندة غزة وتحرير فلسطين، وكيف أنها استدعت فى الأذهان الاحتجاجات التى اندلعت عام 1968 للتنديد بحرب فيتنام. ثم أخيرا رأيت تصريحا للأكاديمية البارزة، الدكتورة رباب إبراهيم عبد الهادى، وهى أمريكية من أصل فلسطينى ولدت بمدينة نابلس فى مطلع الخمسينيات، عن إلغاء جامعة ولاية سان فرانسيسكو للكورس (منهاج) الذى كانت تدرسه بنجاح منذ سنوات، وذلك ضمن برنامج كامل أسسته لدراسات العرقيات والمهاجرين العرب والمسلمين، وقد أعلنت بعدها مباشرة أنها ستواصل جهودها وأنشطتها التعليمية بدون مقابل من خلال «جامعة غزة الشعبية» وستستمر فى فضح الممارسات الإسرائيلية. توقفتُ عند تطور أداء هذه الجامعات واستمراريتها.
مر عام ونيف، وهذه الخيام البسيطة الملونة التى انتصبت داخل حرم أهم جامعات العالم لا تزال حاضرة، وهناك من يسجل تجربتها من خلال كتابات تروى ما يحدث فيها ونوعية الموضوعات التى يتم طرحها وطبيعة المشاركين وطريقة التفاعل بينهم وآلية اتخاذ القرارات، إلى ما غير ذلك، ما يجعلها تمثل نموذجا مغايرا للجامعات وللتعليم الحر. وهو نموذج مثير للاهتمام، يتمرد على المؤسسات التعليمية الحالية والتى صارت فى نظر البعض خاضعة أكثر فأكثر لقواعد الاقتصاد النيوليبرالى والعولمة الصناعية - العسكرية الجارية، وبالتالى صارت دائمة التأرجح بين مصالح الدولة والسوق. وقد شهد العالم بالفعل فى مراحل باكرة تجارب مختلفة لجامعات شعبية حول العالم، بدءا من الدنمارك فى القرن التاسع عشر على يد الكاتب والفيلسوف نيكولا فريدريك سيفيرين جروندفيج أو فى فرنسا خلال القرن ذاته فى خضم قضية دريفوس وتزايد الخلافات بين طوائف المجتمع، حينما حاول بعض المثقفين والعمال التصدى للحملات الغوغائية المعادية للسامية، وظلت هذه الجامعات الشعبية فى ازدهار حتى قيام الحرب العالمية الأولى.
•••
أطلق النشطاء اسم «جامعات غزة الشعبية» على الخيام التى يجتمع فيها المساندون لغزة بانتماءاتهم المختلفة، ومن ضمنهم بالطبع أعضاء حركة «يهود مناهضون للصهيونية». تدور نقاشات ثرية فيما بينهم حول موضوعات قد تستبعدها المقررات التقليدية أو تحجمها. تتلاشى الفواصل بين الطالب والأستاذ، إذ يعطى هؤلاء محاضراتهم خارج غرف الدرس، فيما يشبه علاقة «المجاورين» التى عرفناها سابقا فى الأزهر وحلقات تحصيل العلم قديما. الشكل نفسه استلهمه أحد رواد التعليم فى فلسطين، وهو منير فاشه، ابن القدس الذى ولد قبل النكبة بسبعة أعوام، حين طرح خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى بدائل عن التعليم الرسمى، وربطها بالطبيعة والخبرات الذاتية والمجتمعية، وقد فكر فى ذلك بسبب إغلاق المدارس والجامعات وقتها. وقام بالفعل منير فاشه، الحاصل على الدكتوراه فى التربية من جامعة هارفارد، بإنشاء «مؤسسة تامر للتعليم المجتمعى» عام 1989، التى ظلت تعمل مع الناس على الأرض رغم المضايقات الإسرائيلية، حتى توقفت التجربة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، وظهرت محلها مؤسسات أخرى حكومية، فبحسب منير فاشه «غياب المؤسسات لا يعنى بالضرورة أن تسود الفوضى».
كلامه ينطبق دون شك على تجربة «جامعات غزة الشعبية» المنتشرة حاليا فى العديد من الجامعات الأمريكية، ففيها يتم التطرق لتاريخ القضية الفلسطينية وتعقيداتها بشكل مفصل، ولكن أيضا يكون الحديث عن دراسات إنهاء الاستعمار ومناهضة العنصرية، وعن النسوية ودورها فى حركات التحرر.. فى ميتشجان، فى كاليفورنيا، فى كولومبيا، فى سان فرانسيسكو،... قد تنطلق النقاشات حول التاريخ المعاصر من أفكار فرانز فانون، الطبيب والفيلسوف الفرنسى الذى ناضل ضد الاستعمار فى الجزائر وفى العالم، أو من مقولة للكاتب الفلسطينى غسان كنفانى، أو من آراء مؤلفة نسوية مثل الأمريكية بيل هوكس، أو من نظريات الناشطة أنجيلا ديفيس حول الوعى الاجتماعى وفلسفة العقاب والموسيقى الشعبية. وأتساءل ألا يمكن أن يستمر هذا التقليد ويُبنى عليه؟
فى معظم هذه الخيام التى صارت «جامعات شعبية»، تشكلت مكتبات قائمة بالطبع على التبرعات تحمل اسم الشاعر الفلسطينى رفعت العرعير الذى استشهد فى غزة منذ عامين، تخليدا لذكراه، فى أحد أركانها تقام جلسة حوارية حول مسيرة شهيد فلسطينى آخر وهو باسل الأعرج الذى اغتالته قوات الاحتلال عام 2017 ، وكنيته «المثقف المشتبك» لأنه اشتهر بالتنظير للثورة والمقاومة. وفى موضع آخر قد نتعرف على باحثات لهن كل التقدير مثل نادرة شلهوب كيفوركيان، ابنة حيفا التى ركزت أعمالها على الصدمات وجرائم الدولة والعنف القائم عل النوع والإبادة الجماعية، وكان ذلك سببا كافيا لأن تتهمها سلطات الاحتلال بالتحريض على العنصرية والإرهاب وتلقى القبض عليها فى منزلها بالقدس.
•••
قد يتصادف وجودك تحت خيمة واحدة مع جيل أصغر من النابهين مثل أمير مرشى، طالب الدكتوراه بجامعة ميتشجان والمتخصص فى التاريخ والأنثروبولوجيا، أو مثل مريم أبو سمرة التى تركز بحثها على الحركات الطلابية الفلسطينية العابرة للحدود ومساهمتها فى النضال خلال الفترات السياسية المختلفة. هذه الأسماء والوجوه الفلسطينية التى تساهم ضمن آخرين من جنسيات متعددة فى الإبقاء على جذوة هذه الجامعات الشعبية وتطوير أدائها صاروا من هم عليه الآن بسبب اهتمام ذويهم بالتعليم، هم ومن معهم قد يصبحون نواة لحركة عالمية تغير الكثير وتصنع الكثير بعد سنوات من الآن، فبالطبع مثل هؤلاء الشباب بعد أن شهدوا ما شهدوه من أحداث لا يمكن أن يعود كل شىء فى حياتهم كما كان. رفعوا منذ بداية نشاطاتهم شعار «فلسطين ستحررنا جميعا»، وظنى أن هذا الشعار لن يذهب أدراج الرياح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved