الإيجار القديم.. تشوّهات متراكمة ورغبة في الإصلاح

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 12 مايو 2025 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

الأزمة التى تعيشها مصر اليوم بسبب ميراث قانون الإيجارات المكنّى بالقديم، هى أزمة كاشفة للأثر التراكمى المدمّر للتشوّهات التى يمكن أن يخلقها قرار سياسى فى لحظة تاريخية، انتزع خلالها أهم حقوق المواطنين الدستورية، وهو الحق فى التملّك والتصرّف فى الملكية، لصالح كثرة المستأجرين، الذين مررت تحت ستار كثرتهم قرارات مجحفة دفع ثمنها المجتمع كله والموازنة العامة للدولة عبر أجيال.

 


محاولة الحكومة اليوم رد بعض الحقوق إلى أصحاب العقارات ومن ثم رد بعض من حقوق الدولة المهدرة فى صورة ضرائب عقارية غير مسددة، هى محاولة متأخرة لكن ضرورية، للقضاء على نسق مشوّه للعلاقة الإيجارية، بغية بناء مستقبل جديد لتلك العلاقة، فى باب من أهم أبواب ثروات المصريين وهو الثروة العقارية.
على عكس الكثير من مشروعات القوانين، فقد جاء مشروع القانون متزنا منصفا متدرّجا فى نصوصه الثمانية، ساعيا إلى تحقيق التوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين، مع مراعاة الأوضاع الاجتماعية لبعض الفئات وتوفير بدائل عند الضرورة، يتضمن المشروع زيادات تدريجية فى الإيجارات، وإجراءات لتنظيم العلاقة بين الطرفين، بما يضمن حقوق الملكية ويعزز الاستثمار العقارى فى مصر، وقد نص مشروع القانون فى مادته الأولى على أن تسرى أحكام هذا القانون على الأماكن المؤجرة لغرض السكنى والأماكن المؤجرة للأشخاص الطبيعية لغير غرض السكنى وفقا لأحكام القانونين رقمى 49 لسنة 1977 فى شأن تأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، و136 لسنة 1981 فى شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير وبيع الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر.
•••
الضجة التى تملأ فضاء التواصل الاجتماعى طبيعية ومتوقّعة لكن يجب ألا تثنى الشارع عن إصدار هذا القانون بصيغته المقدّمة من الحكومة أو بصيغة قريبة منه، الدفع بأن المستأجر قد قدّم للمالك مبلغا كبيرا من المال تحت مسمّى «خلو رجل» يعادل قيمة تملّك العقار هو دفع مغلوط، لأن تلك القيمة فى أحسن الأحوال ترد للمالك وورثته عبر أجيال جزءا يسيرا من إيجارات عادلة لم يتمكّنوا من تحصيلها بقوة القانون القديم وتعديلاته، كما لم يتمكّنوا من بيع عقاراتهم، لأن شاغليها يرفضون النزوح بقوة القانون، ولا يدفعون قيمة إيجارية تكفى حتى لسداد العوائد (الضرائب) المفروضة على الملّاك الذين تمنوا التخلص من عبء الملكية الذى لا يثمر ولا يغنى من لهب الضرائب وإن قلّت قيمتها.
الخلو المتفق عليه فى دورات متعاقبة كان يتقاسمه المستأجر نفسه أو أحد ورثته مع مالك العقار! ومع هذا فقيمة هذا الخلو لا يمكن أن تعادل قيمة التمليك وإلا كان المستأجر الجديد قد تملّك عقارا جديدا أفضل من الاستئجار، المبالغ المدفوعة على سبيل إخلاء العقار من شاغليه والتحايل على غبن القانون السائد (قبل إصدار قانون الإيجارات الجديد قانون رقم 4 لسنة 1996) يمكن اعتبارها (بمفهوم اقتصادى لا علاقة له بالقانون) قيمة إيجارية تعويضية مقدّمة سددت بتراضى الطرفين، وفى هذه الحال فإن فترة الخمس سنوات الانتقالية التى يضعها مشروع القانون المعروض على البرلمان، تكفى لتآكل واستهلاك amortization معظم المبالغ المسددة وفق هذا العرف، ويمكن توافق الأعضاء على أن العقارات التى أجّرت خلال السنوات الثلاث الماضية تخضع لفترة انتقالية أطول نسبيا ولتكن ثمانى سنوات.
• • •
بدأ تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر فى مصر منذ العشرينيات من القرن الماضى، حيث صدر أول قانون للإيجارات عام 1920، وكان يهدف إلى حماية المستأجرين من الزيادات العشوائية فى الإيجارات، خاصة فى ظل الظروف الاقتصادية غير المستقرة وتداعيات اشتعال الحرب الكبرى، وفى عام 1941، صدر قانون يمنع الملاك من رفع الإيجار أو إخلاء المستأجرين، وهو ما استمر بعد ثورة يوليو 1952، حيث تم إصدار قوانين تلزم الملاك بتخفيض الإيجارات، مما أدى إلى تثبيت الأسعار عند مستويات منخفضة للغاية، ففى عهد الرئيس جمال عبد الناصر صدر القانون رقم 46 لسنة 1962 لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر، والذى حدد القيمة الإيجارية للمساكن وفقًا لضوابط معينة، كما صدر القانون رقم 7 لسنة 1965، الذى خفّض الإيجارات بنسبة 15% ثم 15% ثم 35%! مما أثّر بشكل كبير على حقوق الملاك.
قد أدى تثبيت الإيجارات المخالف للمنطق والشرع والأعراف إلى إلحاق ضرر تراكمى بأصحاب الأملاك وورثتهم، حيث فقدوا القدرة على تحقيق عوائد عادلة من عقاراتهم، مما دفع الكثيرين إلى إهمال الصيانة أو ترك الوحدات مغلقة بدلا من تأجيرها، كما أن الدولة حرمت من الضرائب العقارية المناسبة، حيث لم يتم تحديث القيم الإيجارية بما يتناسب مع التضخم والتغيرات الاقتصادية، مما أثّر على إيرادات الدولة من هذا القطاع الحيوى.
إذ شهدت العقود الماضية محاولات بائسة مقيّدة لتعديل قانون الإيجارات القديمة، فقد صدر - مثلاً - قانون 1981 الذى أبقى على تثبيت الإيجار عند نسبة 7% من قيمة الأرض والمبنى وقت الترخيص، دون مراعاة التغيرات الاقتصادية أو معدلات التضخم، مما أدى إلى استمرار تشوهات سوق العقارات، هذه القوانين سمحت بامتداد العلاقة الإيجارية لأبناء وأحفاد المستأجرين، مما أدى إلى استمرار عقود إيجار زهيدة للغاية فى مواقع متميزة لفترات تجاوزت 70 عامًا!
•••
من المتوقع أن يؤدى تعديل قانون الإيجارات القديمة إلى إعادة تنشيط سوق العقارات، حيث سيتمكن الملاك من تحقيق عوائد عادلة، مما يشجعهم على إعادة تأهيل الوحدات المهملة وتأجيرها بأسعار مناسبة، كما أن تحرير الإيجارات قد يؤدى إلى زيادة المعروض من الوحدات السكنية، مما يساعد فى تحقيق توازن أفضل بين العرض والطلب، لكن على الرغم من الفوائد المحتملة، يواجه مشروع القانون الجديد عدة تحديات، أبرزها صعوبة التعامل مع مختلف العقارات بمقياس واحد، فالمستأجر الأصلى غير الوارث، والساكن الجديد غير القديم.. وكبار السن وأصحاب الظروف الخاصة يجب مراعاتهم أولا.. وهى الأمور التى يمكن تنظيمها فى اللائحة التنفيذية، واستخدام منصات حكومية مختلفة للتعامل معها، مع تقديم حوافز ضريبية للملاك الذين يراعون ظروف المستأجرين إمهالا فى رفع الإيجار أو طلب إخلاء العين بعد انتهاء الفترة الانتقالية.
•••
تُظهر التجارب الدولية فى بعض الدول، مثل ألمانيا وفرنسا، أن تطبيق سياسات تدريجية لتحرير الإيجارات أمر ممكن، بينما اعتمدت دول أخرى، مثل الهند والصين وجنوب إفريقيا، على إصلاحات قانونية تهدف إلى تحقيق التوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين. فى ألمانيا، تم تطبيق نظام «كبح الإيجارات» منذ عام 2015، والذى يحد من زيادة الإيجارات فى المناطق ذات الطلب المرتفع بنسبة 3,5% سنويًا، هذا النظام ساعد فى استقرار أسعار الإيجارات فى مدن مثل برلين وهامبورغ، حيث كانت الإيجارات ترتفع بمعدلات تجاوزت 9% سنويًا قبل تطبيق القانون، لكن فى المقابل قدّمت الحكومة الألمانية حوافز للملاك، مثل إعفاءات ضريبية على تحسين العقارات، لضمان عدم تراجع جودة الوحدات السكنية.
أما فى فرنسا، فقد تم تطبيق نظام ضبط الإيجارات فى المناطق ذات الطلب المرتفع، مثل باريس وليون، حيث يتم تحديد سقف للإيجارات بناءً على متوسط الأسعار فى المنطقة، ساهم هذا النظام فى خفض معدل ارتفاع الإيجارات بنسبة 15% مقارنة بالمناطق غير الخاضعة للضبط، كما أن الحكومة الفرنسية قدمت حوافز ضريبية للملاك الذين يوافقون على تأجير وحداتهم بأسعار أقل من السوق، مما ساعد على زيادة المعروض السكنى.
كذلك، شهدت قوانين الإيجارات فى الهند إصلاحات تدريجية تهدف إلى تحرير السوق مع الحفاظ على حقوق المستأجرين، وفقًا لدراسة منشورة فى معهد مارون بجامعة نيويورك، فإن قوانين الإيجارات القديمة فى مومباى أدت إلى انخفاض كبير فى المعروض السكنى، حيث تم تثبيت الإيجارات عند مستويات منخفضة للغاية، مما دفع الملاك إلى إهمال الصيانة أو ترك العقارات شاغرة، لكن فى السنوات الأخيرة، تم تقديم إصلاحات جديدة تسمح بزيادات تدريجية فى الإيجارات، مع تقديم حوافز للملاك لتأجير العقارات بأسعار معقولة، مما ساهم فى تحفيز الاستثمار فى قطاع الإيجارات.
أما فى الصين، فكانت السياسات الحكومية تهدف إلى تقليل الاعتماد على ملكية المنازل وتعزيز الإيجارات المدعومة، وفقًا لتقرير البنك الدولى، فإن الحكومة الصينية قدّمت برامج دعم مالى للمستأجرين، مع فرض قيود على زيادات الإيجارات فى المدن الكبرى مثل بكين وشانغهاى، لضمان استقرار السوق، كما تم إنشاء صناديق استثمارية لدعم بناء وحدات سكنية للإيجار بأسعار معقولة، مما أدى إلى زيادة المعروض السكنى وتحقيق توازن أفضل بين العرض والطلب.
فى جنوب إفريقيا، كانت هناك محاولات لتعديل قوانين الإيجارات لضمان حقوق المستأجرين مع الحفاظ على تحفيز الاستثمار العقارى، وفقا لإحدى الدراسات، فإن حكومة جنوب إفريقيا قدمت إصلاحات تشريعية تهدف إلى حماية المستأجرين من الإخلاء التعسفى، لكن مع تقديم حوافز للملاك لتأجير العقارات بأسعار معقولة، كما تم إنشاء برامج دعم حكومى لمساعدة الأسر ذات الدخل المنخفض فى الحصول على سكن مناسب، مما ساهم فى تحقيق استقرار أكبر فى سوق الإيجارات.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved