عندما تنحاز حقوق الملكية الفكرية لشعوب الجنوب

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الأربعاء 12 يونيو 2024 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

عندما نجح المؤتمر الدبلوماسى المنعقد فى مقر المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) فى جنيف، فى شهر مايو الماضى، فى التوصل إلى معاهدة دولية فى مجال الملكية الفكرية والموارد الجينية والمعارف التقليدية المتصلة بالموارد الجينية، فإن هذا الحدث كان له أكثر من دلالة.

أما الدلالة الأولى فتتعلق بأن هذه المعاهدة هى الأولى التى يتم التوصل لها بنجاح بعد تسع سنوات من آخر معاهدة دولية تم التوصل إليها فى مجال الملكية الفكرية، وهى تلك المتعلقة بالمؤشرات الجغرافية، والتى عقد مؤتمرها الدبلوماسى أيضًا فى مقر «الويبو» فى عام 2015. ولم تكن المعاهدات الدولية التى يتم التوصل إليها تجاه القضايا التى تهم العالم بأسره شحيحة فقط فى مجال الملكية الفكرية فى العقد الأخير بل كان ذلك ظاهرة عامة عانت منها كل المنظمات الدولية لأسباب تتصل بتراجع عام فى إرادة العديد من بلدان العالم، خاصة تلك الرئيسية، فى العمل فى الإطار الدولى المتعدد الأطراف من جهة وانكفاء الدول على أحوالها الداخلية من جهة ثانية وكذلك تبنى سياسات حمائية تحت شعار «الوطنية الاقتصادية» وغيرها من شعارات مشابهة من جهة ثالثة.

وتتصل الدلالة الثانية للتوصل لتلك المعاهدة بصعوبة الموضوع وتعقده وطول المدة التى استغرقها التفاوض الدولى حوله فى إطار المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فمنذ مطلع الألفية الثالثة تشكل داخل المنظمة فريق حكومى عامل مفتوح العضوية ضم كل الدول أعضاء المنظمة بهدف التفاوض من أجل التوصل إلى معاهدة دولية تغطى ثلاثة موضوعات، وهى: المعارف التقليدية والموارد الجينية والتعبيرات الثقافية التقليدية، والأخيرة تعرف اختصارًا باسم «الفولكلور». واتصفت تلك المفاوضات على مدى أكثر من عقدين من الزمان بمواجهة صعوبات بالغة، باعتبار موضوعها له فى الأساس أهمية كبرى وأولوية لدى غالبية الدول النامية، سواء من الناحية الاقتصادية أو الثقافية أو التاريخية، لأن للجنوب وبلدانه ميزة نسبية فى تلك الموضوعات الثلاثة التى تناولها الفريق الحكومى العامل. وتم الحديث فى السنوات القليلة الماضية عن ضرورة حلحلة هذا الوضع والسعى لتحقيق اختراق نوعى بشأنه، وذلك على أساس تقديم تنازلات متبادلة من جانب جميع الأطراف المعنية. وقد ارتكزت الصيغة التى قامت بتحريك الأمور فى الفترة الأخيرة على عنصرين، بهدف ضمان تماشى الدول المتقدمة وتلك التى تمر بمرحلة تجول اقتصادى، أى دول أوروبا الشرقية سابقًا، مع الحد الأدنى من مطالب الدول النامية.

أما الأمر الأول فكان العمل على تحقيق تقدم على مسار معاهدة فى هذا المجال وفى نفس الوقت تحقيق تقدم فى مجال التفاوض حول معاهدة دولية لقانون التصاميم، والذى كان مطلبًا مهمًا منذ سنوات، أساسًا للبلدان الغربية المتقدمة، وتحقق ذلك بالفعل عندما أعلنت الجمعية العامة للويبو، فى دورتها لعام 2022، عقد مؤتمرين دبلوماسيين دوليين فى عام 2024، الأول هو الذى انتهى بنجاح فى جنيف فى مايو الماضى، ونجح فى التوصل إلى معاهدة دولية حول الملكية الفكرية والموارد الجينية والمعارف التقليدية المتصلة بالموارد الجينية، والثانى من المنتظر أن ينعقد فى نوفمبر 2024 وتستضيفه المملكة العربية السعودية، ويتناول العمل للتوصل لمعاهدة دولية لقانون التصاميم.

بينما كان الأمر الثانى هو الاكتفاء بالعمل من أجل معاهدة دولية للملكية الفكرية والموارد الجينية والمعارف التقليدية المرتبطة بالموارد الجينية فقط، وترك بقية الموضوعات التى يتم التفاوض حولها منذ مطلع الألفية الثالثة فى إطار الفريق الحكومى الخاص بالمعارف التقليدية والموارد الجينية والفولكلور، أى المعارف التقليدية فى سياقها الشامل والتعبيرات الثقافية التقليدية (الفولكلور) إلى فرصة أخرى فى المستقبل عندما يتوافر حد أدنى مطلوب من التوافق الدولى بشأن هذه الموضوعات المتبقية، وهو الأمر الذى أضيف نص للمعاهدة الأخيرة للسماح به مستقبلًا عندما يتحقق التوافق الدولى المطلوب.

أما الدلالة الثالثة، وقد تكون من الناحية الموضوعية الأهم، فهى أنه ربما تكون هذه هى المعاهدة الأولى فى تاريخ المعاهدات الـ27 الموجودة فى حيز النفاذ فى مجال الملكية الفكرية على الصعيد الدولى التى تتصاعد أهميتها لغالبية بلدان الجنوب بشكل حيوى وواضح وقاطع كأطراف مستفيدة من المعاهدة، مقارنة بعدد محدود من بلدان الشمال سوف يستفيد منها. ومن الصحيح أن هناك سابقة لمعاهدة ذات طابع إنسانى، وهى معاهدة مراكش الخاصة بمنح استثناءات لحقوق الملكية الفكرية لأصحاب الإعاقة البصرية التى توصل إليها مؤتمر دبلوماسى تابع للويبو فى المغرب فى عام 2012، لكن تلك المعاهدة أفادت ذوى الإعاقة البصرية فى العالم بأسره، أما المعاهدة الجديدة فهى توفر السياج القانونى لتحقيق استفادة اقتصادية وثقافية للكثير من بلدان الجنوب بشكل ملموس، حيث تتواجد فى تلك البلدان نسبة كبيرة من الموارد الجينية والمعارف التقليدية المتصلة بها والتى تدخل فى مكونات تخضع لصياغة براءات اختراع، مثل تلك الخاصة بالعديد من الأدوية، والتى تمنح الحماية لأصحابها من أفراد وشركات يكونوا فى الأغلب الأعم من بلدان الشمال الغنية.

وفى السابق لم ينل البلدان التى أخدت منها تلك الموارد الجينية أو المعارف التقليدية المتصلة بها أى اعتراف أدبى أو حماية قانونية أو مناقع اقتصادية. وبالطبع للاستفادة من المعاهدة الجديدة يجب أولًا أن تدخل حيز النفاذ بتصديق 15 دولة عليها، وكذلك تصبح نافذة فقط للدول المصدقة عليها أو المنضمة إليها لاحقًا. كما أنه من الصحيح أن المعاهدة جاءت نتيجة عملية تفاوضية وبالتالى قدمت بلدان الجنوب بعض التنازلات فى سياق العملية التفاوضية وربما لم تنل كل النتائج التى كانت تأملها من المعاهدة الجديدة، لكن تبقى المعاهدة الأخيرة إنجازًا مهمًا وغير مسبوق يمكن البناء عليه مستقبلًا، كما ورد بالفعل فى صلب نص موادها.

وننتقل إلى الدلالة الرابعة فى المعاهدة الدولية الجديدة التى تم التوصل إليها فى إطار «الويبو» حول الملكية الفكرية والموارد الجينية والمعارف التقليدية المتصلة بالموارد الجينية، وهى خاصية تتعلق بهذه المعاهدة، وكانت من قبل تتصل بعملية التفاوض حولها، وأعنى هنا منح صفة المراقبين لممثلى الجمعيات أو المنظمات غير الحكومية التى تمثل الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية فى بعض بلدان العالم، ثم النص فى المعاهدة ذاتها على منحهم نفس الصفة فى سياق الجمعية العامة التى ستقوم بالإشراف على تنفيذ المعاهدة وتطويرها وإمكانية مراجعتها فى المستقبل. وقد كان دور ممثلى الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية مثار خلاف خلال العملية التفاوضية الطويلة، ليس فقط بسبب خلافات بين بلدان الشمال والجنوب، بل فيما بين بلدان الجنوب ذاتها لاختلاف وضعية الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية ما بين دولة نامية وأخرى، سواء من الناحية التاريخية أو الجغرافية أو الشخصية القانونية أو حتى الإقرار السياسى بوجودها. كما لم يخلُ الأمر من حالات ظهور تباينات بين الشعوب الأصلية أو المجتمعات المحلية داخل دولة وحكومة تلك الدولة على آلية ومحددات ومعادلة استفادة تلك الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية من المعاهدة الدولية حال التوصل إليها. لكن فى كل الأحوال فإن الصياغة التى تم التوصل إليها وإقرارها فى المعاهدة توفر الفائدة للحكومات وللشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية، حال وجودها، على حد سواء، ولا تستبعد أيًا منهم من الاستفادة من أحكام المعاهدة.

ولا يمكن الانتهاء من تناول هذا الموضوع دون الإشارة بالتقدير والإعزاز إلى جهود خبيرين مصريين متميزين فى هذا المجال ساهما منذ نشأة الفريق الحكومى العامل داخل الويبو فى مفاوضاته بل كان لهما أدوار قيادية، سواء فى بلورة مواقف بلدان الجنوب أو فى التوصل إلى صياغات مقبولة لبلدان الشمال والجنوب على حد سواء، وأعنى هنا الراحل الكريم الأستاذ الدكتور أحمد مرسى والمستشار الدكتور حسن بدراوى، والأخير كان له دور حيوى ومؤثر فى نجاح المؤتمر الدبلوماسى الأخير فى التوصل إلى معاهدة دولية فى مجال الملكية الفكرية والموارد الجينية والمعارف التقليدية المتصلة بالموارد الجينية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved