صديقتى إنعام

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 12 يونيو 2025 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

عندما التقيتُ صدفة بالناقد الأدبى الصديق سيد محمود فى معرض القاهرة للكتاب فى يناير٢٠١٨، طلبتُ منه أن يرشّح لى بعض الروايات العربية للقراءة، فلم يتردد لحظة واحدة واقترح علىَّ ثلاثة أسماء أقرأ لها إنعام كجه جى من العراق وحمور زيادة من السودان وسعود السنعوسى من الكويت، وأخذنى إلى دار نشر تنمية للصديقين خالد ومحمود لطفى حيث كان السنعوسى يوقّع كتبه وأمامه طابور طويل من القراء. فوجئت بين الواقفين بطالبة حديثة التخرج كانت تنتظر دورها لتحصل على نسخة موقعّة من السنعوسى - أحد كتّابها المفضلين كما قالت، فأحببتُ المفاجأة السارة لأن شابةً تقرأ باللغة العربية لكاتب غير مصرى، وشعرتُ ببعض الخجل لأن الفتاة العشرينية تعرف ما لا أعرف فى عالم الأدب، وكانت تلك مناسبة للتأكد من أن المعرفة لا علاقة لها بالعُمر، ومن أن بعض بنات وأبناء الجيل z يشرحون القلب.
• • •
من هذا اليوم بدأَت علاقة من طرف واحد مع إنعام كجه جى، وكانت علاقتى معها من خلال رواية «طشارى» التى تحكى عن وردية اسكندر طبيبة النساء العراقية التى هاجرت إلى فرنسا فى سنٍ متقدمة، وتبعثر أبناؤها بين القارات بفعل ساطور وهمى لجزار قاس القلب رمى الكبد إلى الشمال الأمريكى، وطوّح الرئتين صوب الكاريبى، وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج. وتظل وردية تطارد عقارب الساعة التى تشير إلى السابعة فى مقرها الباريسى وتتابع مسار الزمن فى الإمارات وكندا وهاييتى حيث يقيم الأبناء، وفى بغداد حيث مخدع القلب. ومن الوهلة الأولى أدخلتنى إنعام إلى عالَم غُربتها، وأنا بينى وبين عوالم الغُربة ما يشبه المغناطيس منذ كنتُ طالبة فى المرحلة الإعدادية، فمع كل ما أحببتُ من الشعر العربى كانت قصائد شعراء المهجر إيليا أبو ماضى وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران- بالنسبة لى هى الأمتع والأكثر إثارة للشجن، وآه من جبران و«أجنحته المتكسّرة». وهكذا ردّتنى إنعام إلى حبّى الأول ردّا جميلًا، فمع أنها هاجرت من العراق إلى فرنسا وهى فى السابعة والعشرين من عمرها، إلا أن العراق بلهجته وتاريخه وأهازيجه ونخله وناسه وعاداته ظل محفورًا فيها، كما ظل مضفورًا بكل أعمالها. تقول إحدى بطلاتها فى روايتها «الحفيدة الأمريكية»: شُلّت يمينى إذا نسيتك يا بغداد. وتقول إنعام نفسها فى أحد حواراتها «مازلت لم أوّف بغداد حقها فى نفسى».
• • •
كل أبطال روايات إنعام هاجروا من العراق، وفى الأصل العراق ليس بلدًا طاردًا لأبنائه ولا هم يغادرونه سعيًا وراء الرزق ففيه خير وفير، لكن قاتل الله السياسة وشرور السياسة. هاجرَت تاج الملوك فى ظل الحكم الملكى لأنها رفضت المعاهدة البريطانية-العراقية، وهاجرَت من بعدها وديان الملاح فى ظل الحكم الجمهورى هربًا من سادية آل صدام حسين التى أفقدتها سمعها، واجتمعت الاثنتان تحت سقف باريسى واحد كمثل الأم وابنتها فى رواية «النبيذة». وهاجرَت وردية اسكندر مع وقوع العراق تحت الاحتلال الأمريكى فى ٢٠٠٣، لأنها اتخذَت قرارًا بأن تنجو بعراقها القديم الذى لا يعرف الطوائف ولا المحاصصات الطائفية ولا القتل على الهوية، وحملَت فى خيالها صورته كما تحبها ولجأَت إلى باريس وعاشت مع أسرة ابنة أخيها فى رواية «طشارى». وما زالت إنعام تقدم لنا تنويعات وتنويعات على تيمة الهجرة، حتى شملَت من أسباب الهجرة أكثرها، فهذه سراب التى فرّت من مطاردة حزب البعث لها، وهذا سارى الجندى العراقى الذى سافر بمنحة لإجراء عملية جراحية يتحوّل بها إلى سارة ثم تدهورَت علاقته بالسلطة بعد رفضه التخابر معها والتجسس على زملائه فكان أن وُجدت جثته مخنوقة فى إحدى حدائق باريس، وهذه كاشينة خاتون الأرمنية العراقية التى نشأت فى بيت مسلم فى الموصل ثم تغيّر الحال ولم تعد تجد لها مكانًا فى موطنها فهاجرَ، وهذا زمزم وهذا الراوي... ثم ما لبث أن التقى الجميع مع الجميع بعاصمة النور فى رواية «سواقى القلوب». أما زينة المسيحية العراقية الأمريكية التى عادت إلى بغداد فى ما يمكن وصفه بالهجرة العكسية المؤقتة مع جيش الاحتلال لتترجم منه وإليه، والتى أحبّت الشيعى حيدر ولم تتزوجه لأن أمه المربية طاووس كانت قد أرضعتها فى زمن لم يكن فيه للحليب دين أو طائفة- هذه الزينة قدَمت لنا نموذجًا مختلفًا فى رواية «الحفيدة الأمريكية». فلقد طرَح اشتغال زينة بالترجمة لجيش الاحتلال أسئلة عليها حول مدى تورطها فى الجرائم التى ارتكبها الأمريكيون ضد العراقيين، وتصارع فى داخلها صوتان مع وضد- لم تستطع التوفيق بينهما.
• • •
هكذا عندما التقيتُ مع إنعام لأول مرة فى ندوة بمكتبة الإسكندرية أظن فى عام ٢٠٢٠، كنتُ مهيأة تمامًا لصداقتها. كان فى ذاكرتى مخزون كاف من شجنها الوطنى الذى لا أتصور أن أحدًا قرأ لها وأفلت من تأثيره. وعن نفسى تأثّرت جدًا بانشغال عراقيى المهجر فى أعمالها بأى تراب يوارون بين ذراته، وبرفض الجيل القديم -جيلنا- لفكرة المقبرة الافتراضية التى ابتكرها أحد الأحفاد فى رواية «طشارى»، فحتى لو كانت المقبرة الإلكترونية مكانًا آمنًا يجمع الأهل المشتتين فى مختلف أركان العالم، لكنه لا يمكن أن يكون بديلًا للوطن. وفى لقائنا الأول كانت إنعام تشبه إلى حد كبير صورتها فى ذهنى، حتى إذا قابلتها للمرة الثانية فى مهرجان أصيلة عام ٢٠٢٣ سرى الحديث بيننا كما لو أننا صديقتان من ألف عام، وفى نهاية الحديث أهدتنى ليفة.. نعم ليفة. ماذا أقول عن هذه التلقائية المفرطة لإنعام التى خطفَت قلبى بليفتها وهى الكاتبة ذات العيار الثقيل؟. ثم تمر الأيام وأدخل فى محنتى الصحية الكبيرة فنتبادل الكلام على المسينچر وندردش فى أوجاع السن وتحايُلنا حتى لا يرى أزواجنا منّا إلا كل جميل مثل زمان وأيام زمان. ثم تفاجئنى بالقول «عندى لكِ قلادة فضّة تليق بعذوبتك أيتها الفرفوشة الأبدية.. ممكن رقم تليفونك؟ هناك صديق راجع للقاهرة على العيد». ملأت عينىّ الدموع.
• • •
يا صديقتى التى فعلَت بيننا الكمياء الإنسانية مفعولها من قبل حتى أن نلتقى، سعيدة سعادة الدنيا بفوزك بجائزة سلطان بن على العويس فى مجال القصة والرواية والمسرحية، فهذه الجائزة المحترمة لا تذهب إلا لمن يستحقها. سعيدة لأنك أديبة من طراز فريد، تعكسين تنوّع العراق الحبيب على المستوى الشخصى وتبدعين فى تجسيد هذا التنوع على الورق. تضفرين التاريخ بالحاضر، والخيال بالواقع، وتُدخلين الوطن فى تلافيف تلافيف رواياتك كما فعل آباء المهجر الأولون. تنحتين بمهارة ورهافة مطلقة الأسماء والعناوين والتشبيهات وتكبسينها فى أرواحنا كبسًا «مثلما تُكبس قطع الخيار والجزر والثوم العجم». ثم تريدين منّا بعد ذلك كله أن نصدقك حين تقولين «إن الشق كبير وإبرتنا صغيرة»؟، بل إن الشق يا صديقتى كبير لكن إبرتك أيضًا كبيرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved