التحطيب بديلًا.. غابات لبنان تسقط ضحية أزمة الطاقة

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الخميس 12 يونيو 2025 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

بالتزامن مع أزمة المحروقات فى لبنان، نشطت عمليات التحطيب غير القانونية، بداية من عام 2019، التى أدت إلى انحسار الغطاء الشجرى فى الغابات، خاصة فى المناطق الشمالية، فى ظل غياب الرقابة.
«من هالك لمالك لقباض الأرواح»، بهذه العبارة يصف اللبنانى باسم ياسين معاناته السنوية فى تأمين الحطب لتدفئة منزله خلال فصل الشتاء، إلا أن هذه المعاناة تفاقمت هذا العام (2024) فى ظل ارتفاع أسعار الحطب، الذى يؤثر فى قدرة المواطن البسيط على شراء المحروقات.
تحتاج عائلة ياسين، المكونة من سبعة أفراد، إلى ستة أطنان من الحطب طيلة فصل الشتاء، بسعر يعادل ألف دولار أمريكى؛ وهو مبلغ يصفه بـ«الباهظ»، لكنه يبقى أقل من أسعار المحروقات.
يُعدّ التحطيب، وما ينتج عنه من تبعات بيئية، واحدًا من عدة عوامل تسبّبت فى تراجع المساحات الخضراء فى لبنان على مدار السنوات الماضية، إلى جانب الحرائق التى تندلع فى الأحراج من حين إلى آخر.
ومنذ الثامن من أكتوبر 2023، احترق أكثر من ثلاثة آلاف دونم من الأراضى المزروعة جراء العدوان الإسرائيلى على لبنان، بالإضافة إلى تضرر أكثر من سبعة آلاف دونم من القصف فى محافظات الجنوب.
ويعانى لبنان أزمة طاقة حادة منذ عام 2019، ألقت بظلالها على قطاع الكهرباء، وأدت إلى انقطاعها لساعات طويلة خلال اليوم. كما تدهور الوضع الاقتصادى فى البلاد، ما أدى إلى ارتفاع معدل الفقر بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضى، ليصل إلى 44 فى المائة من إجمالى السكان.
وطالت هذه الأزمة الغطاء الشجرى؛ حيث فقد لبنان وحده 390 هكتارًا من الغابات عام 2019، ما جعله -وقتها- العام الأكثر خسارة للأشجار منذ 2009. وخلال الفترة ما بين عامى 2019 و2023، خسر لبنان ألفين و644 هكتارًا من الأشجار نتيجة القطع العشوائى؛ وهو ما يشكل ربع ما فقده لبنان من الأشجار منذ عام 2001.
• • •
يقطن ياسين فى منطقة شتورة فى البقاع شرقى لبنان؛ حيث يعتمد غالبية سكان المنطقة على الحطب وسيلة للتدفئة، فى حين يبقى العامل المادى وحجم الاستهلاك هما الأساس فى الكمية التى يشترونها، وفق حديثه.
يقول ياسين معبرًا عن قلقه من عدم قدرته على تأمين كمية كافية من الحطب، بعد أن وصل سعره إلى معدلات قياسية؛ نتيجة لتبعات الحرب الإسرائيلية على لبنان: «خلال هذا الوقت من العام، يصل سعر الحطب إلى ذروته، ولا يهتم المواطن اللبنانى إذا ما كان خشب الحطب قد قطع من الأشجار بشكل قانونى من عدمه؛ فكل ما يعنيه هو الحصول على حطب بسعر مناسب يكفيه طيلة فصل الشتاء».
يعتمد ياسين على الحطب منذ سبع سنوات مصدرًا للطاقة، ويحصل عليه بالطريقة ذاتها؛ إذ يتصفح المجموعات ذات الصلة على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»؛ حيث يعرض التجار الأسعار، وبعد الاتفاق يرسلون الشحنة من خلال خدمة التوصيل؛ فلا يلتقى التاجر والبائع وجهًا لوجه.
يعلن التجار عبر مواقع الـ«فيسبوك» و«تيك توك»، عن توفر حطب مستخرج من عدة أشجار؛ أبرزها الصنوبر والأرز والسنديان والليمون وكينا وكازابرينا، وتختلف الأسعار باختلاف نوع الحطب، إلا أن سعره يتراوح بين 70 دولارًا ومائتى دولار للطن الواحد. ويضع التجار صورًا للحطب وأرقامًا للتواصل، ويبدى المئات من اللبنانيين فى التعليقات رغبتهم فى الشراء.
• • •
يأتى هذا رغم أن أشجار الصنوبر والأرز، المعلن عنها تدخل ضمن نطاق الأشجار الحرجية الصمغية، التى يمنع القانون اللبنانى قطعها، إلا بطريقة التفريد الفنى، وبموجب ترخيص صادر من وزير الزراعة.
غير أن الفيديوهات المنتشرة فى المجموعات الخاصة ببيع الحطب، تُظهر اعتماد مواطنين على طرق قطع بدائية أو خطرة؛ مثل المنشار الكهربائى، وأدوات حادة أخرى، فى قطع جذوع الأشجار.
وتمر عملية بيع الحطب بعدة مراحل، وفق حديث تاجر حطب لبنانى -فضل عدم ذكر اسمه- تبدأ بسيطرة تاجر عرفيًا على غابة أو أجزاء منها. ويملك هذا التاجر ورشة ومعدات، تتيح للعاملين تقطيع الحطب المستخرج من الغابات إلى قطع كبيرة، وبيعها لتاجر أصغر، يقطع بدوره الحطب لأجزاء صغيرة جاهزة لوضعها فى المدفأة اليدوية، ثم يبيعها للمستهلك.
يعترف التاجر بأن هناك أنواعًا يُقيد القانون اللبنانى قطعها؛ مثل السنديان، لكنّ كبار التجار يُقدمون على قطعها، مضيفًا أنه لا يجرؤ على بيع السنديان، إلا بعد التأكد من أنه لن يتعرض لأىّ خطر أو ملاحقة قانونية.
وتسبب استخدام الأخشاب الناتجة عن التحطيب فى اندلاع حريق كبير، أدّى إلى حرق مساحات واسعة من الأحراج والأشجار وبعض المنازل؛ ما أجبر عائلات عديدة على إخلاء منازلها، إلى جانب إخلاء المدارس المجاورة، بناءً على طلب الدفاع المدنى للحفاظ على السلامة العامة، ولم يُخمد الحريق إلا بعد عدة أيام.
• • •
يشير رئيس «المركز الوطنى للعدالة البيئية»، دكتور محمد مصطفى عيادات، إلى وجود عدة قوانين ومراسيم بشأن حماية الغابات فى لبنان وإدارتها؛ من أهمها قانون الغابات الصادر عام 1949، بهدف تنظيم إدارة الغابات، والحفاظ عليها من التدهور والاستغلال المفرط.
لكن يؤكد الخبير البيئى أن التشريعات اللبنانية تفتقر إلى الصياغة القانونية والاستراتيجية بعيدة المدى، ولم تُدمج بها أهداف التنمية المستدامة. كما تشوب القوانين بعض الثغرات التى قد تُستخدم فى تبرير الأنشطة غير القانونية؛ مثل الاستثناءات الممنوحة للمستثمرين والأفراد؛ ما يعوق جهود الحماية، ويفاقم من التحطيب والقطع غير القانوني.
• • •
عام 2015، بلغت مساحة غابات لبنان وأراضيه الحرجية 237 ألف هكتار؛ أى ما يعادل 23.4 فى المائة من مساحته. ومنذ ذلك العام، خسر لبنان أكثر من 10 آلاف هكتار من هذه الغابات.
ويرجع انحسار الغابات فى لبنان إلى الحرائق التى قُيدت 92 فى المائة منها ضد أسباب مجهولة، فيما تسبّب الإهمال فى وقوع خمسة فى المائة من الحرائق، فى حين يرجع اثنان فى المائة منها إلى الحرق العمد.
تُظهر صور الأقمار الصناعية وخرائط مؤشر الغطاء النباتى فى منطقة عكار على وجه الخصوص، تحسنًا ملحوظًا فى بعض المساحات الخضراء عام 2024، مقابل تراجع حاد فى مناطق أخرى؛ إذ تقلصت المناطق المصنفة غير مزروعة إلى قرابة نصف ما كانت عليه عام 2020. كما تقلصت المناطق المصنَّفة أراضى مفتوحة، ومناطق عشبية، وغابات منخفضة الكثافة إلى أقل مستوياتها منذ عدة أعوام. فى المقابل، تضاعفت مناطق الغابات الكثيفة ثلاث مرات مقارنة بما كانت عليه عام 2020.
لا يُعد التحطيب فى حد ذاته مشكلة، شرط أن يجرى وفق خطة متكاملة لإدارة الغابات؛ إذ تسهم عمليات قطع الأشجار المدروسة فى تخفيف الكتلة الحيوية، وبالتالى الحد من مخاطر حرائق الغابات. لكن ما يحدث فى الآونة الأخيرة هو عمليات قطع مكثفة وعشوائية طالت حتى أشجار المرتفعات العالية؛ مثل أشجار اللزاب (العرعر) وأشجار الأرز والشوح؛ وهى أشجار لا تتجدد بسهولة كالسنديان أو الصنوبر.
• • •
ولقطع الأشجار وإزالة الغابات تأثيرات كبيرة فى المناخ وحياة الإنسان، وفقًا للتقرير الثانى المحدث الذى قُدم إلى اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ عام 2017.
وتؤدى الغابات دورًا أساسيًا بوصفها «مخازن للكربون»؛ إذ تمتص ثانى أكسيد الكربون من خلال عملية التمثيل الضوئى، وتخزنه فى الكتلة الحيوية والتربة. وعند قطع الأشجار، يُطلق الكربون المخزن مرة أخرى فى الغلاف الجوى، ما يفاقم ظاهرة الاحترار العالمى.
ويرى الباحث فى علم المناخ فى المعهد الاتحادى السويسرى للتكنولوجيا فى زيورخ (ETH)، ياسر حداد، أن إزالة الغابات تؤدى إلى تغييرات جذرية فى المناظر الطبيعية، إذ تتحول الغابات الخصبة الغنية بالأمطار إلى أراضٍ جافة وقاحلة. يؤدى هذا الخلل فى الدورة المائية الطبيعية إلى التصحر فى المناطق المتضررة. كما تسهم الأشجار فى تنظيم رطوبة الغلاف الجوى، والمحافظة على جودة التربة، ومن دونها تصبح التربة أكثر عرضة للتآكل، ما يزيد من احتمالية وقوع الفيضانات.
وفى محاولة منها لإيجاد حلول لتآكل الغطاء الشجرى فى لبنان، سهّلت جمعية «درب عكار» زراعة أكثر من 11 ألف شجرة من أشجار الغابات المحلية، ودعمت برامج لتوفير أشجار سريعة النمو لأفراد المجتمع يمكنهم زراعتها؛ لتوفير حطب بديل خلال بضع سنوات.
ومع ذلك، يظل ارتفاع تكلفة الطاقة، وإيجاد بديل نظيف لها يتماشى مع الظروف الاقتصادية للمواطنين، تحديًا كبيرًا يعوق جهود حماية الغابات فى لبنان.

بديعة الصوان وعبدالله سكر

موقع درج

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved