غاز شرق المتوسط.. العوامل الجيوسياسية والبترولية
صحافة عربية
آخر تحديث:
الأربعاء 12 أغسطس 2020 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتب وليد خدورى.. نعرض منه ما يلى.
تضرب بشرق المتوسط عواصف عدة. أحدثها انفجار مرفأ بيروت، والكارثة التى حلت ببيروت البهية والعريقة على شاطئ شرق المتوسط. لماذا هذا الانفجار؟ هناك أسئلة عدة بحاجة إلى الإجابة الشفافة وذات المصداقية، هل هو الإهمال فقط؟ أو جزء من سلسلة سيطرة «حزب الله» على المنافذ الحدودية للبلاد؟ وكيف حدث الانفجار؟ هل عن طريق الخطأ؟ أم قُصف العنبر من قبل طائرات عسكرية؟
وقد أدلى شهود عيان، كانوا فى مناطق قريبة من المرفأ فى حينه، لوسائل الإعلام المحلية، بأنهم سمعوا أصوات طائرات تحلق فى المنطقة، هذا فى الوقت الذى نفت فيه مصادر رسمية تحليق طائرات إسرائيلية فى المنطقة فى ذلك الوقت. والسؤال المهم الذى ينتظر جوابا شفافا وصريحا: لماذا تكديس هذه المتفجرات الخطرة فى مرفأ تجارى؟ ولماذا المحافظة عليها لسنوات عدة؟ من ثم: هل الانفجار قضاء وقدر أم محاولة أخرى لتدمير بيروت، كما صرح سعد الحريرى؟ فإذا هى محاولة لتدمير بيروت، فلماذا؟ ومن المسئول؟ هذه جميعها أسئلة بحاجة إلى أجوبة صريحة. فالذى حدث هو جريمة ضد الإنسانية. المهم أن يصدر عن اللجنة المسئولة عن التحقيق الإعلان عن بيان لا لبس أو مداورة فيه، حول تدمير عاصمة عربية ثانية.
فى النهاية، ومهما كانت فحوى نتيجة التحقيق، ستؤدى هذه النكبة التى حلت ببيروت إلى أزمة داخلية، ليس أقلها ردود فعل أهالى آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين والمتضررين، أو إلى تصعيد النزاعات الإقليمية.
وما انفجار بيروت المدمر إلا صفحة أخرى لنزاعات الشرق الأوسط فى ظل الميليشيات وغياب دول مسئولة عن مواطنيها، الناتج عنها مسلسل القتل والدمار فى كل من العراق واليمن وسوريا، والآن ليبيا. وطبعا، قبل كل هذا وذاك، هناك النكبة الأولى فى فلسطين. والمأساة الكبرى اليوم أن المواطن يتوقع نكبات جديدة فى الشرق الأوسط. والجديد فيها الآن هو الصراع الجيوسياسى والبترولى فى شرق المتوسط.
***
تركزت التوقعات عند اكتشاف الغاز فى شرق المتوسط فى بداية هذا القرن، أن تبدأ صفحة جديدة من النزاعات بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، نظرا لتاريخ إسرائيل التوسعى للسيطرة على الموارد المائية للمناطق المحاذية لها. وهذا ما حدث فعلا عند اكتشاف الغاز. إذ منعت إسرائيل السلطة الفلسطينية من تطوير حقل «غزة مارين» وبدء الإنتاج منه. كما وضعت إسرائيل يدها على مساحة واسعة من بلوكات 8 و9 و10 فى جنوب لبنان، وتعتبر هذه المنطقة موعودة. وبالفعل فقد اكتشفت إسرائيل حقلا غازيا بالقرب منها.
توسعت نزاعات شرق المتوسط البترولية أخيرا مع تصاعد طموحات تركيا فى عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، فقد تحدى أولا الاكتشافات القبرصية؛ لكنه أخفق فى ثنى جمهورية قبرص عن إيقاف نشاطها البترولى. وساندت دول السوق الأوروبية قبرص (الدولة العضو فى الاتحاد الأوروبى)، ثم تنازع أردوغان مع مصر حول حدودها البحرية مع قبرص. وردت الحكومة المصرية ببيان شديد اللهجة تحذر تركيا من التدخل فى شئونها السيادية. كما بادرت القاهرة بدعوة مجموعة من الدول المصدرة والعابرة والمستهلكة لغاز شرق المتوسط للاجتماع فى القاهرة، وتأسيس منتدى لغاز شرق المتوسط، وشاركت فى الاجتماع التأسيسى مصر، وقبرص، وإسرائيل، واليونان، وإيطاليا، والأردن. وقد دُعى لبنان لحضور الاجتماع؛ لكن بيروت اعتذرت لمشاركة إسرائيل فى تأسيس المنتدى. بادرت تركيا منذ حينه بالتوجه نحو ليبيا، وعقد اتفاقات أمنية واستراتيجية مع بعض أطراف النزاع هناك، واتجهت أخيرا نحو حوض سرت النفطى العملاق فى شرق ليبيا، مما صعد من احتمالات المواجهات العسكرية الجديدة (محليا وإقليميا ودوليا) فى شرق المتوسط.
ما هى الأهداف التركية المبتغاة من تصعيد مطامعها فى شرق المتوسط؟
حققت تركيا نجاحا اقتصاديا باهرا خلال السنوات الأخيرة؛ لكن أنقرة واجهت مشكلة، وهى افتقادها حقول النفط والغاز. ورغم السواحل طويلة المدى لتركيا على كل من البحر المتوسط والأسود، لم يتم العثور على حقول بترولية؛ لكن تركيا استغلت تشييد السدود المائية الضخمة لتوليد الطاقة الكهربائية، مما ساعدها على تلبية بعض حاجاتها من الطاقة؛ لكن ليس بشكل كافٍ.
ومن اللافت للنظر أن تركيا التى تعتبر واحدة من دول العبور المهمة للنفط والغاز من الشرق (روسيا، وأذربيجان، وكازخستان، وإيران والعراق) إلى الغرب (دول السوق الأوروبية المشتركة)، استغلت هذه المشروعات للعب دور الترانزيت؛ لكن لم تحاول استقطاع حصة وافية لها للاستهلاك المحلى من النفط والغاز الذى يصدر إلى الأسواق العالمية من خلال موانئها.
رغم المشكلات العديدة التى تواجه الاقتصاد التركى، فهناك إمكانيات لتوسعه؛ إذ إن هناك محاولات بين أنقرة وواشنطن لإحلال تركيا بدلا من الصين، لتزود البضائع الاستهلاكية للأسواق العالمية. بمعنى آخر بدء «طريق الحرير» من تركيا بدلا من الصين؛ لكن هذه الاتصالات تواجه صعوبتين خلال هذه المرحلة: التفشى الواسع لـ«كوفيد ــ 19» فى تركيا، والصراع التركى ــ الروسى فى سوريا وليبيا.
وكانت علاقات أنقرة مع واشنطن قد واجهت صعوبات سابقا أيضا؛ نظرا لشراء تركيا نظام الدفاع الجوى الروسى «إس ــ 400» ضد رغبة الولايات المتحدة. وفى الوقت نفسه تواجه تركيا انهيارا كبيرا فى قيمة عملتها المحلية بالنسبة للدولار. وهناك أيضا تصاعد التحديات الداخلية لنفوذ إردوغان، وخسارة حزبه فى انتخابات بلدية إسطنبول المهمة فى مارس 2019، كما أن هناك أزمة هوية تركية؛ فهل هى أوروبية رغم رفض الدول الأوروبية انضمامها للاتحاد الأوروبى؟ أم إنها شرقية – إسلامية؟ وما هو دورها ومركزها فى هذا المجال فى ظل نظامها العلمانى الذى أسسه كمال أتاتورك، وتحالف الرئيس أردوغان مع جماعة «الإخوان المسلمين» التى تعتبر منظمة إرهابية فى عدد من الدول؟
تحاول تركيا فى عهد الرئيس أردوغان لعب دور «عثمانى ــ إسلامى». فالرئيس أردوغان يتكلم عن علاقات بلاده التاريخية مع ليبيا، رغم أن البحر الأبيض يفصل ما بين البلدين. لقد أصبح من الواضح أن أولوياته فى ليبيا جيوسياسية وبترولية. فهو يطمح للاستثمار فى صناعة البترول الليبية من خلال الحصول على امتيازات استثنائية، كما قد أصبح من الواضح أن حزبه بالتعاون مع جماعة «الإخوان المسلمين» يحاول انتهاز الفرص لتوسيع نفوذهما فى شمال إفريقيا، فى الوقت نفسه الذى تحاول فيه إيران بسط نفوذها فى دول المشرق.
الغريب فى الأمر، أنه فى الوقت نفسه الذى يدعو فيه حزب إردوغان لتبنى نظام إسلامى، نجد أن نحو 500 ألف برميل يوميا من نفط إقليم كردستان العراق يُهرب إلى إسرائيل عبر ميناء جيهان التركى إلى ميناء أشكلون (عسقلان) وبأسعار مخفضة. طبعا تحصِل تركيا ضريبة على كل برميل من النفط العراقى المهرب، رغم معارضة بغداد المستمرة لهذا التهريب الذى تقوم به الحكومة الإقليمية فى أربيل، وتوفر هذه النفوط المهربة نحو ربع حاجة إسرائيل من النفط الخام.
***
من الواضح أن انطلاق صناعة غاز شرق المتوسط ستواجه طرقا صعبة فى بادئ الأمر، حتى تتم تسوية الصراعات الجيوسياسية، إما عن طريق الحروب، كما هو محتمل فى ليبيا، وإما عن طريق نجاح وساطات دول كبرى لحل النزاعات، كما هو الأمر ما بين إسرائيل ولبنان. ففى لبنان – مثلا ــ بادرت الولايات المتحدة بالوساطة بين بيروت وتل أبيب، لحل مشكلة النزاع الحدودى البحرى، وتشير التصريحات الأخيرة للمسئولين المعنيين إلى إمكانية الوصول إلى حل مشترك. هذا، مع الأخذ بنظر الاعتبار، أن موعد عمليات الحفر فى الجنوب اللبنانى من قبل شركة «توتال» الفرنسية هو الربع الأخير من عام 2020. أما بالنسبة لمحاولات تركيا فى ليبيا، فالأمر لا يزال خطرا، ويتصاعد يوميا من صراع مسلح داخلى إلى إقليمى إلى دولى.
فى خضم هذه التطورات الجيوسياسية، أعلنت شركة «نوبل إنرجى» الأميركية فى شهر يوليو، وهى المستثمر الأكبر فى صناعة الغاز الإسرائيلية، عن إفلاسها، نظرا لتدهور أسعار النفط. وقد اشترت شركة «شيفرون» الأميركية العملاقة شركة «نوبل إنرجى» بعد إعلان إفلاسها. وهذه خطوة مهمة. إذ قد حاولت إسرائيل لسنوات عدة جذب شركات عملاقة إلى أراضيها دون أى جدوى. و«شيفرون» هى الشركة النفطية العملاقة الأولى التى تعمل فى إسرائيل. هذا يعنى توفر أموال أكبر للاستثمار فى صناعة الغاز الإسرائيلية، واستعمال أحدث التقنيات فى الحفر فى المياه العميقة.