سيرة (مجدي)
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 12 أغسطس 2025 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
أعرف أنه لا ينبغى لأى كاتب أن يشغل القارئ بشأن شخصى إلا أننى رأيت فى الحديث عن صديقى مجدى صبحى الذى رحل قبل أيام شأنًا عامًا بكل المعانى.
حين رشحنى الشاعر إبراهيم داود للعمل معه فى مجلة الأهرام العربى عند تأسيسها لم أكن أعرف فى مؤسسة الأهرام كلها سوى فنان الخط العربى حامد العويضى، المدير الفنى بمركز الدراسات، ثم تعرفت من خلاله على الصديق خالد السرجانى.
اعتدت أن أبدأ يومى بالجلوس معه، أقرأ الصحف فى مكتبه ثم أصعد معه إلى مركز الدراسات، وهناك إما أن نجلس مع العويضى فى غرفته وإما أن نلحق به فى غرفة أخرى تجمع الأساتذة: عبدالفتاح الجبالى، ومجدى صبحى، وضياء رشوان.
ظلت لهذه الغرفة منزلة خاصة زادت أرواحهم الطيبة من قيمتها ومعناها، وجعلتها رحبة مثل مقهى لا يخلو من نقاشات وصخب ومن شخصيات لامعة وعابرى سبيل يأتون يوميًا لقضاء الوقت دون أن يتذمر منهم أحد.
بعد النميمة والذى منه كنا ننزل إلى سوق التوفيقية نأكل ونجلس على المقهى ومعنا من يتصادف وجوده.
لم تكن الأيام متشابهة رغم ذلك؛ فالثراء الإنسانى غمرها ولونها بحكايات زاهية.
حين تعمقت الصلة بهؤلاء أدركت أن بينهم أشياء أعمق من مسألة الانتماء إلى جيل واحد؛ كلهم التحقوا بالمركز منتصف الثمانينيات أو قبلها بقليل وسبقهم إلى العمل فيه جيل آخر ضم الدكاترة: عبدالمنعم سعيد، ومحمد السيد سعيد، وعبدالعليم محمد، ومحمد السعيد إدريس، وحسن أبوطالب، والراحل طه عبدالعليم.
رغم تباين الأفكار والمواقف بقيت أواصر الصداقة قائمة ومتينة وبقيت الأيام غنية حتى حلت المناصب.
عرف بعضهم الطريق إلى الشهرة مع دخول الفضائيات، وتزامن ذلك مع ارتفاع درجة الاستقطاب السياسى فى عصر مبارك ومع قرار بتقسيم الغرف الواسعة فى المركز إلى غرف أصغر ضمنت لكل باحث أن يستقل بمساحة خاصة تتيح له العمل بدلًا من انفراط الوقت ومنهم من رشح للعمل فى مواقع تنفيذية وأصبح ظهوره نادرًا حتى إن العويضى طالب أيامها بغرفة تتصدرها لافتة (العائدون من المناصب)، وذلك فى إشارة إلى المناصب التى نالها بعضهم عن جدارة، ومنهم من استمر ومنهم من عاد إلى سيرته الأولى.
بعد تدهور أوضاع الصحافة انفرط العقد تمامًا، وأصبح من الصعب العثور على أحد فى مكتبه ربما باستثناء مجدى صبحى الذى التزم بالحضور إلى مكتبه رغم أنه خرج فى نوبات قصيرة للعمل خارج الأهرام مرة فى منظمة لمناهضة التمييز لم تعمر طويلًا أو فى فضائية «أون تى فى» عند انطلاقها، كما سافر للعمل فى الإمارات لمدة عام واحد.
لم يعرف مجدى فى حياته سوى العمل، يأتى فى موعده المحدد يقرأ ويكتب ويطالع مصادره البحثية ويستقبل من يطرق بابه بالمحبة اللازمة وبالكرم المعتاد، وأشهد أنه لم يغلق بابه فى وجه أحد.
يبسط معرفته ومحبته أمام الجميع بإخلاص نادر ومودة صادقة لا يرجو منها شيئًا، لأنه يثق فى قدراته التى أشاد بها أساتذة أعلام فى تخصصه مثل محمود عبد الفضيل أو جودة عبد الخالق أو جلال أمين.
توثقت صلتى بالراحل خلال مراحل تجهيز الأعداد الأولى من مجلة (أحوال مصرية) التى كان نائبا لرئيس تحريرها النبيل محمد السيد سعيد الذى حلم بكتابة رصينة تجمع جدية البحث وخفة لغة الصحافة.
وجدت فى مجدى صبحى الصفات التى يندر أن تجتمع فى شخص واحد، وأولها نزاهة القصد والاستقامة الأخلاقية والمهنية مع ثقافة عميقة وتأسيسة تجمع معارف متنوعة.
بدأ بدراسة الهندسة فى جامعة حلوان، ثم تركها بعد عام واحد وتوجه لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية.
وظل رغم عمق معرفته هو الأكثر تواضعًا من بين من عرفت فى حياتى، عاش ومات مترفعًا عن الصغائر، أمتلك قوة روحية تقوم على الاستغناء بوصفه القوة الحقيقية.
أحب التاريخ والأدب وداوم على قراءة الروايات بشغف تجاوز شغف النقاد، وكانت له ذائقة رفيعة مع الحرص على عدم الاستعراض.
بعد أن خرج إلى التقاعد اعتزل الجميع لشعوره بأنه تعرض لظلم بالغ ولم ينل التقدير الذى يستحقه.
خلال سنوات حياته الأخيرة راهن على الغياب وافتقدنا روحه الملهمة نحن الذين أحببنا صحبته كأنها رحلة لن تنتهى أبدًا.
لم نعرف أن انسحابه الذى استمرّ لخمس سنوات كاملة عكس رغبة فى عدم الشكوى من المرض الخبيث الذى أصابه دون أن يدرى وواجهه صامتا وحيدا رغم سعى أصدقاء كثر للمساندة فى الوقت الضائع.
لا يكفى القول أننى فقدت إنسانًا عزيزًا لكن ما أثق فيه أنه استحقّ رحمة الله من عذاب المرض الذى باغته وكسر إيقاع أسرته، التى أخلص لها حتى قبل أن يختطف الموت زوجته فى عز شبابها، فمنذ أن عرفته وهو الشخص الذى يترك العالم ليلحق بموعد تمرين ابنه أو يحظى بصحبة ابنته مريم فى النادى.
أؤمن أن مجدى هو عنوان لكل شىء جميل وجدته فى الأهرام وانتميت له، أفتقد بغيابه النبل فى أفضل صوره وأتمنى للجميع أن يكونوا مثل (مجدى)، الإنسان الذى حافظ على نقاء صورته ولم ينخرط أبدًا فيما يفقده هذا النقاء.