هزيمة المماليك!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 12 سبتمبر 2020 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
وصل الأسطول الحربى لنابليون فى أبوقير فى الأول من يوليو لعام 1798 بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصرى وعاداته ودينه. يقول الجبرتى فى وصول الاحتلال الفرنسى إلى مصر فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، والمنشور بواسطة دار الكتب المصرية بالقاهرة عام 1998:
«وهلت سنة 1213 هجرية وهى أول سنى الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور... وفساد التدبير وحصول التدمير، وعموم الخراب وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون».
فور وصول نابليون، طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسى أولا ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال، لكن محمد كريم حاكم الإسكندرية فى ذلك الوقت منع القنصل من الذهاب، ولكنه عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسى بنابليون ولكن كريم اشترط وفقا لبعض المراجع أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد. تمت المقابلة بين القنصل ونابليون وطلب الأول من الأخير سرعة الإنزال لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال، مما دعا محمد كريم إلى الذهاب لاستطلاع الأمر فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها!
رغم هذا الانتصار الأولى، لكن حينما تمت عملية الإنزال كاملة فقد ظهر ضعف جيش المماليك وضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة فى يد الفرنسيين، فطلب نابليون من محمد كريم تأييده ومساعدته فى القضاء على المماليك تحت دعوى أنه (أى نابليون) يريد الحفاظ على سلطة آل عثمان! ورغم تعاون كريم فى البداية، إلا أنه لم يستسلم وواصل دعوة الأهالى للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رميا بالرصاص فى القاهرة لاحقا.
كانت هذه السياسة التى اتبعها نابليون، ادعاء أنه لا يعادى الدولة العثمانية ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، وأيضا الحرص على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين، وفى ذلك وبحسب دراسة قصيرة نشرها تييرى كرودى فى دورية Warrior العدد رقم 77 (مجهول تاريخ النشر) أن نابليون قام بتوجيه الجنود باحترام سياسة عدم احتساء الخمر كما هو معمول به فى مصر، فاضطر الجنود عوضا عن ذلك لتدخين الحشيش الذى حصلوا عليه من بعض أهل البلد، ولكن بعد اكتشاف نابليون لمخاطر تأثير الحشيش فقد قام بمنعه وقرر أن يقوم بعض أفراد الجيش الفرنسى بإنتاج خمور محلية الصنع لإشباع رغبات الجنود.
وفى حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، فقد اكتشف القائد الفرنسى كليبر، أن بعض الجنود يقومون ببيع الملابس والسلع التى حملها الأسطول الفرنسى إلى السكان المحليين، وأن آخرين قاموا بسلب بعض البيوت، بل تورطت مجموعة ثالثة فى جريمة قتل سيدة تركية وخادمها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين فى هذه الجريمة الأخيرة بالسجن ثلاثة أشهر فقط، فلم يعجب نابليون بهذه العقوبة وأعاد المحاكمة وتم إعدام الجنود المتورطين فى هذه الحادثة بالقتل أمام الجنود، وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده لعدم استفزاز السكان كجزء من خطته فى التقرب إلى المصريين وإرسال رسائل طمأنة إلى الباب العالى فى الأستانة!
***
كان من أول أعمال نابليون فى الإسكندرية هو وضع نظام حكم جديد لها استند على مجموعة من المبادئ التى أوردها أحمد حافظ عوض (مرجع سابق الذكر)، وأهمها:
• حرية الأهالى فى ممارسة شعائرهم الدينية ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد.
• الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية.
• تأليف مجلس بلدى يتكون من المشايخ والأعيان (منهم محمد كريم قبل إعدامه لاحقا)، وتفويض المجلس بالنظر فى احتياجات السكان المحليين.
• فرض ضريبة تقدر بـ150 ألف فرنك كغرامة حربية.
• إنشاء كورنتينة فى المدينة.
• إنشاء مطابع مختلفة للغات الفرنسية والعربية والتركية واليونانية.
ثم أصدر نابليون مرسوما لتأمين تقدم قواته فى مصر، ورغم أن مقدمة المرسوم كانت تحاول مغازلة مشاعر السكان الدينية، فإن مواد هذا المرسوم كانت شديدة القسوة وأهمها:
• كل قرية تقع على بعد 3 ساعات عن المواضع التى تمر بها القوات الفرنسية، لابد أن ترسل من أهلها رسلا لتأكيد الولاء والطاعة.
• كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تحرق بالنار.
• عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة أثناء تأديتهم لوظائفهم، وضرورة شكر المصريين لله أن خلصهم من المماليك وأن يرددوا:
«أدام الله إجلال السلطان العثمانى! أدام الله إجلال العسكر الفرنساوى، لعن الله المماليك! وأصلح حال الأمة المصرية»!
***
لم يمكث نابليون فى الإسكندرية كثيرا، وبدأ زحفه نحو القاهرة، حيث تمكن من هزيمة المماليك فى شبراخيت (فى محافظة البحيرة الآن)، وكانت الفروقات واضحة بين جيش مملوكى بدائى وبين جيش فرنسى منظم، ورغم ذلك فقد وقع من الفرنسيين ما بين 300 إلى 400 قتيل وجريح، ولكن أكمل نابليون الزحف نحو القاهرة، والتى تسربت الأنباء إلى سكانها بهزيمة المماليك فى موقعة شبراخيت، فاستعد الأهالى ومعهم جيش المماليك بقيادة مراد بك للمعركة وقابل القوات الفرنسية عند إمبابة أو بالقرب منها، وعلى عكس موقعة شبراخيت، أبلى المماليك فى هذه المعركة بلاء حسنا، لكن قوة الجيش النظامى الفرنسى فى النهاية انتصرت، خسر الفرنسيون 300 بين جريج وقتيل، وخسر المماليك عدة آلاف (قدروا بين 3 آلاف و4 آلاف)، بعضهم غرق فى النيل حينما حاول أن يعبر إلى الضفة الأخرى من النهر فرارا من المعركة.
كما فعل نابليون فى الإسكندرية، فعل فى القاهرة، حيث وضع نظاما جديدا للحكم يعتمد وفقا للمؤرخ أحمد حافظ على عدة مبادئ أهمها:
• أن تحكم مدينة القاهرة بواسطة ديوان مشكل من 9 أشخاص (مشايخ) جميعهم من المصريين، وتشكل بالفعل أول ديوان للقاهرة وتكون من السادات، الشرقاوى، الصاوى، البكرى، الفيومى، العريشى، السرسى، ومحمد الأمير، ونقيب الأشراف عمر مكرم. وهنا تجدر الإشارة أن بعض الروايات التاريخية تختلف حول عضوية عمر مكرم، فالجبرتى يذكره، وآخرون يؤكدون أنه غادر القاهرة ولم يكن متواجدا فيها فى ذلك الوقت.
• أعطى نابليون الأوامر أن يتمتع الديوان بصلاحيات تعيين قائدين للبوليس، وأن ينتخب قومسيونا لدفن آلاف الموتى فى القاهرة الذين خلفتهم معركة إمبابة، على أن ينعقد الديوان يوميا من الظهر بكامل الأعضاء وأن يكون هناك ثلاثة على الأقل من الأعضاء متواجدين طول الوقت. ويقوم بحراسة الديوان قوة مشتركة من الحرس الفرنسى والحرس التركى (لاحظ مغازلة الباب العالى).
• يتكون فى كل مديرية من مديريات القطر المصرى، ديوان مشابه لديوان القاهرة لرعاية مصالح السكان، على أن يستعين ببوليس من المماليك ولكن تحت إمرة الفرنسيين. يعين الديوان فى كل مديرية مديرا لجباية الضرائب وجمع ثروات المماليك باعتبارها من الآن ملكا للجمهورية الفرنسية، على أن يكون فى كل مديرية وكيل فرنسى للمراقبة والتنسيق.
• أن يتم تثبيت الملكيات الخاصة للسكان (عدا المماليك)، وأن يتم عدم المساس بأوقاف المساجد والمعاهد الدينية. وكذلك عدم المساس بالقضاة والمحاكم الشرعية.
***
كما نرى، فقد حرص نابليون منذ اليوم الأول على تنظيم أمور الحكم بشكل صارم وكون نظاما قانونيا منضبطا على عكس الحال وقت المماليك، ولكن ورغم كل ذلك، يذكر المؤرخون مئات حوادث السرقة والنهب التى مورست بواسطة الجنود الفرنسيين، وتعديهم على الأملاك الخاصة، بالإضافة إلى فرض نظام ضرائب شديد القسوة أفقر معظم الناس الغنى فيهم والمعدم!
رغم انتصار نابليون فى معركة إمبابة، فإن القوات الفرنسية لم يستقر بها الوضع فى مصر وخاصة أن العديد من المديريات مثل الشرقية والغربية والدقهلية بالإضافة إلى الصعيد لم تكن تحت سيطرة الفرنسيين، وهو ما دعا بونابرت إلى مواصلة حملاته العسكرية إلى المديريات التى لم يسيطر عليها بعد، ولعل أشهر هذه المعارك هى معركة الصالحية والتى أبلى فيها مماليك إبراهيم باشا بلاء حسنا، ولكن كالعادة انهزموا فى النهاية، وفر إبراهيم بك إلى الشام ومعه الوالى العثمانى «أبو بكر باشا»، وهو ما مثل ضربة لخطة نابليون الساعية للتقرب وعدم معاداة الباب العالى والتى سعى من خلالها إلى محاولة إقناع أبو بكر باشا بالبقاء ولكنه فشل فى ذلك.
لم يختلف الوضع كثيرا فى الصعيد والذى كان يعسكر به مراد بك، حيث هزمه الجيش الفرنسى فى عدة معارك متتالية وهنا تختلف الروايات التاريخية حول مصيره، فهناك رواية تقول إنه فر إلى بلاد البربر وأخرى تقول إنه تمكن من الاتفاق مع القوات الإنجليزية التى كانت تحاصر الأسطول الفرنسى فى الإسكندرية بعد هزيمته فى معركة أبى قير البحرية. على أية حال أصبح الفرنسيون بحلول شهر فبراير من عام 1799 مسيطرين على معظم أنحاء البلاد وكانت التعليمات للقوات الفرنسية واضحة، بمجرد السيطرة على هذه المديريات يتم تجريد الأهالى من السلاح، وجمع الخيول اللازمة للجيش الفرنسى، وإنشاء أفران للخبز، ومستشفيات، والاستيلاء على ممتلكات المماليك، مع دراسة أحوال الأهالى وأخذهم بالشدة إن لم يطيعوا!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.