ذكرى جمال الغيطانى
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 12 أكتوبر 2018 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
فى ١٨ أكتوبر الجارى تحل الذكرى الثالثة على رحيل الروائى والقاص والمثقف رفيع المقام جمال الغيطانى. ثلاث سنوات على رحيل من كان سببا مباشرا فى اكتشاف أجيال لجمال وقيمة التراث العربى والإسلامى والعمارة الإسلامية فضلا عن إبداعاته الفريدة فى الأدب.
فتننى الغيطانى بعشقه المجنون للقاهرة القديمة، كنت أتابع بشغف كتاباته واستطلاعاته المصورة عن قاهرة المعز، والقاهرة المملوكية، والعثمانية، التى كان ينشر بعضا منها فى مجلة العربى الكويتية، هذا الرجل لديه قدرة باهرة فى جَذْبك (بالمعنى الصوفى) لمنطقة تشبه «مثلث برمودا» لن تستطيع أن تقاومها أو تخرج منها أبدا، يكتب الغيطانى بوجد، بهيام، يذوب ذوبا، انظر إليه وهو يتحدث أو يكتب عن مسجد السلطان حسن وبيت القاضى ومجموعة قلاوون وشارع المعز ببابيه الشماليين الفتوح والنصر، وباب زويلة فى الجنوب.
يهامس الغيطانى الحجر وينصت له، وكأنه اكتشف الشفرة الخاصة لفك طلاسم اللغة السرية التى تتحدث بها أحجار المساجد والجوامع والخنقاوات والتكايا والأسبلة، المآذن والقباب والمحاريب والأضرحة، يا ربى ما كل هذا الجمال والعشق، هذا رجل يذوب حبا فى ما بقى من تاريخنا وتراثنا القديم.. كلما تذكرت كتابه الصغير «قاهريات مملوكية» الذى كان سببا فى اقتنائى كل ما وقع تحت يدى عن تاريخ مصر الإسلامية وتاريخ الخطط والمساجد الأثرية، أدركتُ قيمة الدور الذى تؤديه «الكتابة العاشقة»، «المخلصة»، «المحرضة»، ولم أفوّت له كتابا فى هذه الدائرة: «ملامح القاهرة فى ألف سنة»، «استعادة المسافر خانة.. محاولة للبناء من الذاكرة»، وكتب أخرى.
كان الغيطانى أحد أساتذتى الكبار الذين أخذوا بيدى لاستكشاف آفاق ودروب فى تاريخنا الإسلامى، وتراثنا العربى، وفنوننا المعمارية القديمة.
وبسبب كتابه البديع اللافت، المهم، القيم، الغائب عن عيون وآذان السادة الأفاضل فى التربية والتعليم، «منتهى الطلب فى تراث العرب»، اقتنيتُ أيضا كلّ كتاب تراثى عقد عنه فصلا فى هذا الكتاب، بسببه تعرفت على «التوحيدى»، وقرأته، ووقعت فى غوايته، وسمعتُ لأول مرة عن الأمير أسامة بن منقذ وكتابيه «الاعتبار» و«المنازل والديار»، ومنه أدمنتُ قراءة مؤرخى مصر الإسلامية (المقريزى وابن تغرى بردى والسيوطى والسخاوى وابن إياس) وسعيت لجمع وقراءة كتب الحوليات والتراجم. فى «منتهى الطلب» أيضا أثار فضولى لقراءة موسوعة «تاريخ التراث العربى» لفؤاد سزكين، وكانت مغامرة كبرى من مغامراتى (ربما أرويها فى يوم ما) للحصول على هذا الكتاب، ولم أنجح فى مطالعته وقراءة أجزاء منه إلا وأنا فى الجامعة.
بفضل الغيطانى، اكتشفت أن كتب التراث شكلت نواة مكتبتى التى تضخمت وتخطت الآلاف العشرة (وربما ضعف الرقم!)، سنوات طويلة وأنا أقتنى كتب التراث وأقرأ ما عنّ لى فى الأدب والتصوف والتاريخ والفقه وأصوله، فى التفسير والقراءات، فى البلاغة القديمة وعلوم اللغة (النحو والصرف والمعاجم والمفردات)، أرى مقدمة ابن خلدون وتاريخه الضخم جنبًا إلى جنب مع كتب ابن المقفع، والجاحظ والتوحيدى وابن عبدربه، وابن رشد، والقزوينى، والغزالى، ومحيى الدين بن عربى، الطبرى وابن الأثير والأصفهانى وابن قتيبة.. سيبويه، وثعلب، وابن جنى، والمتنبى، وأبو تمام، وأبو العلاء المعرى، ومهيار الديلمى، وابن شهيد الأندلسى..
ابن عبدالحكم، والكندى، وابن زولاق المصرى، وابن حجر، والسخاوى، وابن تغرى بردى، والمقريزى، والسيوطى، وابن إياس، وغيرهم.
أتذكر متعة التقليب فى كتب حوليات مصر القديمة، والساعات الطوال التى أمضيتها بصحبة ابن إياس فى كتابه «بدائع الزهور» ورحم الله الغيطانى هو الذى جذبنى إلى هذا الكتاب؛ بعدما قرأت روايته «الزينى بركات». لكن الأهم هو حصولى على النسخة الكاملة من هذا الكتاب الفريد فى 13 مجلدا بفضل الغيطانى الذى أعاد نشر المخطوطة التى قام بتحقيقها المرحوم محمد مصطفى زيادة فى خمسة مجلدات ضخمة، وألحق بها مجلدات الفهارس التى لم تنشر ولم تر النور إلا فى هذه الطبعة من الذخائر التى كان الغيطانى يترأس تحريرها.
لم يكن الغيطانى، رحمه الله، روائيا ممتازا من الطبقة الذهبية الأولى فى أدبنا المعاصر فقط، أو كاتبا وصحفيا من طراز خاص، بل كان مؤسسة بأكملها، مؤسسة لها تاريخ، ذاكرة حية، ومنجز باق وخالد.. ما بقيت الإنسانية والحضارة والأدب والفن.