الإنسان الفائق: ليس كيف بل متى؟!
العالم يفكر
آخر تحديث:
السبت 12 أكتوبر 2019 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب اللبنانى «محمود برّى» ونعرض منه ما يلى:
كانت كلمات عالِم الجينات الأمريكىّ «كريغ فينتر» فى ذلك اليوم من أهمّ ما يُمكن لإنسان القرن الحادى والعشرين أن يسمعه: «نجحنا فى تخليق خليّة بشريّة حيّة». الإعلان كان شديد الوقع، ولاسيّما أنه صادر عن عالِمٍ معروف ورئيس معهد أبحاث رائد يحمل اسمه، وأحد أبرز مؤسّسى معهد أبحاث الجينوم الأمريكيّ، وسبق أن صنَّفته مجلّة «تايم» من بين الأشخاص المائة الأكثر تأثيرا فى العالَم. وعلى الرّغم من ذلك، فقد اضطرّ الرجل لتكرار عبارته غير مرّة ليُطفئ الذهول الذى ساد القاعة.
لم يمضِ وقتٌ طويل على ما أدلى به «فينتر» حتّى صدرت أولى ردّات الفعل، وكانت من البروفسور الأمريكى «آرثر كابالان»، رئيس قسم أخلاقيّات الطبّ فى مركز «أنجون» الطبّى التّابع لجامعة نيويورك. وهو اختصر ما تحقَّق بجملةٍ ما زالت تتردّد فى الأوساط العِلميّة: «أعتقد أنّ هكذا نشأت الحياة». وعلى الرّغم من دعوة د. «بول وولب» ــ مدير مركز «إيمرى» للبحوث الحيويّة ــ إلى «التمهّل قليلا حتّى يتسنّى لنا إجراء المزيد من الأبحاث والتجارب للتأكّد ممّا إذا كان هذا العمل سيُمكّننا من تخليق حياة جديدة»، كما قال، إلّا أنّ الوسط العِلمى أقرّ بأن ما تحقَّق هو إنجازٌ عظيم غير مسبوق فى ميدانٍ علميّ بات قائما بذاته يُعرَف باسم «التقانة الحيويّة أو التكنولوجيا البيولوجية».
إضاءة على المفهوم
كما يُفهم من اللّفظ، فهذا العِلم يعمل على جبهة مُشترَكة تجمع مهارات التقانة والعلوم البيولوجيّة فى حقلٍ مُشترَك: التقانة تعمل على هندسة إنتاج الأعضاء من عناصر حيّة، وعِلم البيولوجيا يهتمّ بدمْجها فى الجسم. هذه هى البيولوجيا التركيبيّة التى هى تطبيق لمبادئ الهندسة على أجزاء بيولوجيّة. والأمر هو تماما كما يبدو عليه: مُزاوَجة بين التكنولوجيا والبيولوجيا فى الجسم الحيّ لتعزيز قدراته.
لكن.. ولو باستدراكٍ متأخّر: ماذا يعنى بالضبط هذا العِلم الناشئ الذى ما برح فى خطواته الأولى الواعدة، وماذا عن ماهيّته؟
البيوتكنولوجى أو التقانة الحيويّة تعبير يعنى التعامل مع الكائنات الحيّة كالنباتات والحيوانات وحتّى البشر أنفسهم فى حالات خاصّة (لأنّ الإنسان هو المُستفيد ولا يكون المُستفاد منه)، أو المواد الناتجة منها (أنزيمات، هورمونات..) واستخدامها لتحسين الخواصّ والصفات الوراثيّة للجنس الحيّ، بغرض تحقيق أقصى الاستفادة منها صحيّا وعلاجيّا وفى مَيادين الطب والصناعة والزراعة وحماية البيئة. وعلى الرّغم من أنّها تقنيّة قائمة بالأساس على عِلم الأحياء، إنّما يجرى العمل على تطويعها وإدخالها فى مجالات أخرى مُختلفة، وبالتالى فهى تقتضى تطبيق المبادئ الهندسيّة والتقنيّة فى مَيادين علوم الحياة، ما يشكِّل فتحا جديدا فى هذا الميدان. الباحث «ريتشارد كيتنى» من «إمبريال كوليدج» اللّندنيّة، وصفَ ما أُنجز بأنّه «ثورة حقيقيّة فى عِلم الأحياء تُضاهى الثورة الصناعيّة». وبات معروفا الآن أنّ جوهر هذه الثورة يقوم على الجينوم البشرى الذى هو مجمل المادّة الوراثيّة المسمّاة «DNA» التى يحملها الحُيين (الحيوان) المنوى أو البويضة، ويبدو على صورة حبل طويل يتألّف من ثلاثة وعشرين جزءا يسمّى كلّ واحد منها «كروموزوم».
إلى هنا ينتهى التوصيف العِلمى لهذا المَبحث الدقيق والمعقّد. لكنّ المُلفت هو أنّه ليس بالإمكان بذلك تجنُّب الكثير من التساؤلات الواسعة التى يطرحها هذا العِلم القائم على الثورة البيوتكنولوجيّة. فما هى الحدود العلميّة المفروضة (حتّى الآن) على عمليّة تخليق أشكالٍ جديدة من الحياة؟ وهل من المُمكن، ولو فى المستقبل، أن يُنتج أجناسا جديدة من حيوانات أو كائنات مجهولة حتّى الآن، أو حتّى جيلا جديدا من «الإنسان الفائق أو السوبرمان بقدرات فوق بشريّة»؟
هذه التساؤلات ليست للإثارة، بل إنّها جزء من معضلات جدِّيّة من جملة ما طرحه عالِم الفيزياء الأمريكى «ميتشيو كاكو» فى كِتابه «رؤى مستقبليّة» الذى شرحَ، بناءً على تجارب وآراء وأبحاث أكثر من 150 عالِما فى جميع المجالات، كيف أنّ العِلم سيغيّر حياة البشريّة فى القرن الحادى والعشرين. والواقع أنّ هذا النمط من التساؤلات لم يعُد غريبا بعد تحقيق عمليّة الاستنساخ وانتقالها من عِلم النباتات إلى عالَم الحيوان، فى طريقها إلى عالَم الإنسان. فمِن حيث المبدأ، أصبح من المُمكن عمليّا استنساخ كائنات حيّة. واستنساخ النعجة دولّلى (1997) على يد «إيان ويلمت ــ Wilmut» لم يكُن مجرّد خاتمة سعيدة لسلسلة طويلة من الأبحاث، بقدر ما كان إيذانا بدخول الإنسان فى عصر جديد.
.. متى وكيف؟
فى عام 1919 ابتكر عالم الاقتصاد الزراعى المجرى «كارل إيركى» مصطلح Biotechnologies. وبفضل التقانات الحيويّة التى استُحدثت فى تلك المرحلة، تسنّى للمزارعين اختيار وتوليد محاصيل أفضل نوعيّة، ما أفضى إلى تضاعف الغلال وبالتالى إنتاج غذاء كافٍ لدعم تزايد السكان. ولم يلبث أن تمدّد ذلك فى مختلف الحقول والمباحث والعلوم العصريّة، وراحت بعض التقانات الحيويّة تستغنى عن الكائنات الحيّة مثلما فى مصفوفة DNA، وتجلّت هذه القفزة بشكل واضح فى تقنيّة الاستنساخ والتوصّل إلى فكّ لغز الجينوم البشرى.
لا أعلم ما إذا كان «ألبرت آينشتاين» يعنى تماما التفاؤل الذى يُفهم من عبارة تركها لنا من جُملة إرثه العِلمى الباهر، ومؤدّاها: «علينا أن نكون مُتفائلين بالمستقبل، مهما ظهرت الآفاق محدودة». لكنّه على ما يبدو كان على حقّ فى تفاؤله. فعبارته أصبحت تميمة للعُلماء، فتُحرِّك الهِمم وتعزِّز التصميم والأمل وتدفع للمضيّ قدما نحو المزيد من الإنتاجات. وراحت قدرات الإنسان تتضاعف بمرور السنوات، كأنّما العُلماء والعِلم قد خَلَفا السَحَرة والسحر فى إبداع ما يُزاوج بين الخيال والخرافة لتوليد الأعاجيب التى تُضاهى أساطير الأوّلين. حدث ذلك بينما عُلماء كثر كانوا يشكّكون فى نظريّة النسبيّة وصاحبها ولم يُصدّقوه.
وكما شكَّك البعض فى آراء آينشتاين العِلميّة فى البداية، كذلك فلا أحد فى الأمس القريب صدَّق العالِم النيويوركى المُعاصر «كيرل كرزويل» حين توقَّع لذكاء الآلة أن يتجاوز الذكاء البشرى ويتفوّق عليه. وهو بلغ الذروة فى تقديراته من خلال كِتابه «عصر الآلات الروحيّة» حيث تحدَّث عن حال مُبهمة من التوافق بين الروح ورقائق السيليكون، «عندما ستتمكّن التقنيّات الحيويّة من جعْل الذكاء الاصطناعى فى مستوى الذكاء البشرى، بما فى ذلك الجزء الذى يخصّ العاطفة والمَشاعر، بحيث يتلاشى أو يكاد الفارق بين الإنسان والآلة، ويصبح البشر خليطا من أناس «تقليديّين من الصنف الشائع وآخرين «مٌعدّلين» يجرى تعزيز قدراتهم ودعمها بتقنيّات شديدة التطوّر (روبوتات صغيرة يجرى تصنيعها من الحامض النووى ذاته) تجعلها قادرة على التفاعل مع مُستخدميها. وسيتحوّل تفكير البشر إلى مزيجٍ بين التفكير البيولوجى وغير البيولوجي». وفى ملاحظة بالغة الأهميّة، طمأَن العالِم المُتسائلين إلى أنّ «السيطرة ستبقى حكرا على المخلوق العاقل الذى من لحم ودمّ وروح.. وأنّ الإنسان سيبقى هو السيّد الذى تُطاع توجيهاته، وذلك بفضل ذكائه (الطبيعى والسيبرانى الاصطناعى) ما سيجعله على الدوام فى موقع التفوّق على الآلة».
هذا الإنجاز، إذا تحقَّق، سيكون إيذانا بدخول البشريّة مرحلة متقدّمة على السايبورغ، أى المخلوق البشرى «المُعدَّل» بفضل التقنيّات الحيويّة، والذى يُعتبر اليوم قمّة «تأليل» الإنسان. أمّا الإنسان «الجديد» فسيكون مُكوَّنا من جزء حيوى وجزء آلي ــ حيوى، ويتمتّع بقدرات استثنائيّة خاصّة. والمقصود أنّه لن يتميّز بالآلات التى تزرعها التقانة فى جسمه، بل ستكون قدراته التقنيّة المُستجدّة، بيولوجيّة.
لكن هل سيكون هناك فى المستقبل فعلا أشخاص بهذه المواصفات؟
الجواب يعتمد على المنطق الاستنتاجى: فمنذ ابتكار مصطلح «سايبورغ» من قِبل العالِمَين الأمريكيَّين «مانفرد كلاينز» و«ناثان كلاين» فى العام 1960، والكلمة تتردّد مع مرافقة استثنائيّة من الحفاوة والدهشة، إنّما فى قصص وأفلام الخيال العِلمى فقط. وعلى الرّغم من هذا الواقع، فالعِلم يُشير إلى أنّ القرن الحالى الحادى والعشرين، هو المرحلة التى سيظهر فيها «ما بعد السايبورغ» واقعيّا وعمليّا... وحتّى الذكاء الفائق لن يعود اصطناعيّا بل.. بيولوجى. وهذه ستكون قمّة الإثارة.
الأمر يبدو ضربا من الخيال، لكنّ يوميّاتنا تقول إنّنا فى سبيلنا بالفعل إلى تحقيق ذلك. أنظر مليّا إلى وضعكَ.. هل يُمكنكَ التخلّى عن هاتف الجيب..؟ بل إنّ علاقتكَ به واعتمادكَ عليه يزدادان يوما عن يوم. ألم يُصبح جزءا يكاد يُكمل ذراعك وذاكرتك ومَسارات علاقاتك الاجتماعيّة ووسيلة تواصلك مع الآخر أينما كان واطّلاعك على المعلومات والأخبار وأحوال الرفاق والغرباء والعالَم؟ ألا تتردّد أحاديث فى الأوساط العِلميّة عن دراسات جارية فى كيفيّة «زرع» محتوى محرّك «غوغل» فى الدماغ البشرى، بحيث يُمكن للشخص استدعاء مختلف المعلومات فى ذهنه، كما يستعرضها اليوم على الشاشة؟
وقائع تكاد لا تُصدَّق
صحيح أنّ معظم ذلك لا يزال مجرّد كلمات على ورقة أو نصوصا تُضيء على شاشة. إلّا أنّ هذا ليس جدارا مسدودا... فقد نُقِلَ عن عُلماء أمريكيّين (كما جاء فى مجلّة «Science») عن النجاح فى تصنيع جزء من قلب بشرى (صمّام) من مادّة الكولاجين عبر تقنيّة متقدّمة باستخدام طابعة ثلاثيّة الأبعاد. وفى السياق ذاته أعلن «آدم فاينبرغ» الأستاذ فى هندسة الطبّ الحيوى فى جامعة «كارنيغى ميلون» فى بنسلفانيا، والذى شارك فى تخليق الصمّام: «نحن لم نضع الصمّام بعد فى جسم حيوان، لكنّنا أنشأنا نظاما يُمكنه مُحاكاة ضغط الدمّ ومعدّل تدفّقه فى جسم الإنسان، ووضعنا الصمّام فيه، وتبيّن أنّه يعمل. إنّ ما تمكنّا من إظهاره هو أنّه بات بالإمكان طباعة صمّام قلب من الكولاجين. وهذه على ما هو معلوم، مادّة مثاليّة تتواجد فى كلّ الأنسجة البشريّة.
ولا مبرّر للإضافة التى باتت واضحة: إذا نجح العِلم فى «طباعة» صمّامٍ للقلب، فسوف ينجح فى ما بعد بإعادة إنتاج الهياكل البيولوجيّة المعقّدة فى جسم الإنسان.
أمام هذا كلّه لم يعُد فى الأمر شكّ: لقد قَطعت علوم البيوتكنولوجى جزءا، ولو قصيرا، من الطريق الذى يجعل من أحد أحفادنا القريبين أو البعيدين مشروع إنسان «فائق».
السؤال لم يعُد محجوزا فى مقصورة الـ«كيف»، بل هو انطلق على قطار الـ:«متى». وكلّ آتٍ قريب.
النص الأصلى:من هنا