السودان المنسى.. صراع ممتد ومجاعة تشتد

عاصم أبو حطب
عاصم أبو حطب

آخر تحديث: الأحد 12 أكتوبر 2025 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

منذ اشتعال فتيل النزاع بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع فى أبريل ٢٠٢٣، وجد السودان نفسه غارقًا فى دوّامةٍ من العنف والدمار لم تشهد البلاد مثلها منذ عقود. فمعارك الجنرالين المستمرة دفعت بالبلاد إلى حافة الفوضى وانعدام الأمن، ودمّرت ما تبقّى من بنيةٍ تحتية ومؤسساتٍ هشّة، وألقت بظلالها الثقيلة على مختلف مفاصل الاقتصاد السودانى. فبانهيار القطاعات الاقتصادية الحيوية والخدمات الأساسية من تعليمٍ وصحة، وتوقّف حركة الاستثمار المحلى والأجنبى والتجارة، وتداعى شبكات الضمان والدعم الاجتماعى؛ تحوّلت حياة ملايين السودانيين إلى صراعٍ يومى من أجل البقاء، فى ظلّ واقعٍ تتآكل فيه مقوّمات الدولة وتتلاشى فيه ملامح الاستقرار.

ومع مرور الوقت، وانصراف أنظار العالم إلى أزماتٍ أخرى أكثر صخبًا فى عناوين الأخبار، أخذت مأساةٌ أخرى تتشكّل وتتعاظم فى الخفاء، لتكشف عن وجهٍ إنسانى أكثر قسوةً للصراع. فقد تفاقمت أزمة الغذاء إلى مستوياتٍ غير مسبوقة فى تاريخ البلاد الحديث، لينزلق ملايين السودانيين إلى هوّة الفقر المدقع، وتصبح الغالبية العظمى منهم عاجزةً عن تأمين قوت يومها، ويغدو الحصول على أبسط السلع الغذائية ضربًا من الرفاهية. ومع كل يومٍ يمضى، يقترب مزيدٌ من السكان من حافة المجاعة، حيث لم يعد الموت جوعًا تهديدًا محتملًا بل واقعًا مريرًا يفتك فى صمتٍ بالأبرياء. وهكذا، وخلال عامين فقط من صراع الجنرالين، وجد السودان نفسه فى قلب مأساة وجودية وكارثة إنسانية تتسع دائرتها يومًا بعد يوم، تُكتب فصولها فى الظلّ بعيدًا عن عدسات الكاميرات، فى بلدٍ كان يُعرف يومًا بأرض الخير والخصوبة و«سلة غذاء العرب»، لكنه اليوم يقف على حافة انهيارٍ شاملٍ بلا أفق واضح للخلاص، وسط صمت دولى مروّع.

• • •

لهذه الأزمة الإنسانية المتفاقمة فى السودان جذورٌ عميقة تعود إلى ما قبل أبريل ٢٠٢٣، إذ إنّ النزاع القائم ليس سوى الحلقة الأخيرة فى سلسلةٍ طويلة من التحديات البنيوية التى أضعفت الدولة وأفقدتها القدرة على تأمين غذاء شعبها. فمنذ تسعينيات القرن الماضى، عاش السودان تحت وطأة العقوبات والعزلة الدولية التى كبّلت اقتصاده ومنعته من الاستثمارات والتكنولوجيا الحديثة، وأضعفت قطاعاته الحيوية، وخصوصًا الزراعة والصناعة. وفى يوليو ٢٠١١، شكّل انفصال جنوب السودان نقطة تحوّلٍ فاصلة، حيث خسر نحو ٧٥٪ من احتياطاته النفطية، الأمر الذى فجّر أزمةً مالية خانقة وأضعف قدرة الدولة على استيراد الغذاء ودعم الإنتاج المحلى، خاصةً فى مناطق هشّة مثل دارفور والنيل الأزرق. وزادت الأوضاع سوءًا مع تكرار موجات الجفاف والفيضانات الموسمية فى العقدين الأخيرين، ما تسبّب فى تآكل الأراضى الزراعية وتهديد الثروة الحيوانية وتراجع إنتاج الغذاء بشكلٍ كبير.

وفى ديسمبر ٢٠١٨، فجّرت «ثورة الخبز» موجة من الاحتجاجات الشعبية بعد أن تضاعفت أسعار الخبز ثلاث مرات نتيجة السياسات الحكومية، لتنتهى بسقوط نظام عمر البشير فى ٢٠١٩، لكنها فى المقابل عمّقت مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائى. ولم تكد البلاد تتنفس من آثار هذه الاضطرابات حتى جاءت جائحة كورونا فى بدايات ٢٠٢٠ لتعطّل سلاسل الإمداد وترفع أسعار مدخلات الإنتاج الزراعى مثل الأسمدة والوقود، فارتفعت أسعار الغذاء بأكثر من ٢٠٠٪ فى بعض المناطق، وتفاقمت معدلات البطالة والفقر. وفى فبراير ٢٠٢٢، أضاف الغزو الروسى لأوكرانيا عبئًا جديدًا، إذ يعتمد السودان على واردات القمح من هذين البلدين بنسبةٍ تقارب ٨٠٪، ما فاقم أزمة التضخّم الغذائى وأعاق أى محاولاتٍ لتعافى القطاع الزراعى. وفى أكتوبر ٢٠٢١، زاد الانقلاب العسكرى وما تبعه من اضطراباتٍ سياسية المشهد تعقيدًا؛ إذ أدّى إلى تجميد المساعدات الدولية وبرامج الدعم الاقتصادى وتعطيل خطط الإصلاح الزراعى والتنمية الريفية.

وأخيرًا، مثّل اندلاع الصراع الداخلى فى أبريل ٢٠٢٣ بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع – والذى يحمل فى جوهره أبعادًا اقتصادية تتعلّق بالسيطرة على الموارد مثل الذهب والأراضى الزراعية – القشّة التى قصمت ظهر الاقتصاد السودانى، وجعلت من خطر الجوع الشامل واقعًا ماثلًا يهدّد بقاء حياة ملايين السودانيين.

وتاريخيًا، كانت الحروب الداخلية والنزاعات الأهلية من أبرز العوامل المسبّبة لتفاقم الجوع وانهيار الأمن الغذائى، وهو ما يتكرر اليوم فى السودان بصورةٍ مأساوية. فقد أدّى القتال إلى تدمير مساحاتٍ شاسعة من الأراضى الزراعية وتعطيل أنشطة الإنتاج فى أكثر من ٦٠٪ من الأراضى بسبب القتال والنزوح، خصوصًا فى مناطق دارفور والنيل الأزرق التى كانت تُعدّ من أهم مصادر المحاصيل الزراعية فى البلاد. كما دمّر الصراع البنية التحتية الحيوية اللازمة للإنتاج والتوزيع أو جعلها غير آمنة بفعل النهب والحصار، لينخفض إنتاج الحبوب الرئيسية كالذرة والقمح والدخن بنحو ٤٦٪ فى السنوات الأخيرة.

• • •

تُظهر تقارير برنامج الغذاء العالمى حجم الكارثة بأرقامٍ صادمة: فهناك اليوم ما يقرب من ٢٥ مليون سودانى يعانون من جوعٍ حاد، أى ما يعادل نصف سكان البلاد تقريبًا. ويقع نحو ١٧.٧ مليون منهم فى المرحلة الثالثة (الأزمة) من مؤشر التصنيف المرحلى المتكامل للأمن الغذائي، وحوالى ٥ ملايين فى المرحلة الرابعة (الطوارئ)، و٧٥٥ ألفًا فى المرحلة الخامسة (الكارثة أو المجاعة)، ما يجعل السودان أكبر أزمةِ جوعٍ فى العالم وفق تقارير الأمم المتحدة. وفى الوقت نفسه، أدّى الانهيار الاقتصادى الحاد وفقدان مصادر الدخل واستمرار انخفاض قيمة العملة المحلية وارتفاع أسعار الواردات إلى تراجع القدرة الشرائية للأسر السودانية التى تنفق فى المتوسط أكثر من ٦٠٪ من دخلها على الغذاء، والذى ارتفع معدل تضخّمه إلى ما يزيد على ١١٨٪ بين عامى ٢٠٢٤ و٢٠٢٥.

ومع ضعف القدرة على الوصول إلى الطعام، ارتفعت معدلات سوء التغذية، ولا سيما بين الأطفال، حيث تشير الإحصاءات إلى أن نحو ٣.٨ مليون طفلٍ دون الخامسة يعانون من سوء تغذيةٍ حاد. وفى ظلّ انهيار الخدمات الصحية ونُدرة المياه النظيفة، تزايدت معدلات انتشار أمراض الكوليرا والملاريا، التى تفاقم بدورها مشكلات سوء التغذية وتضاعف آثارها المدمّرة.

ولن تقتصر آثار هذه الأزمة على المدى القصير، إذ إن العلاقة بين الصراع والجوع ليست أحادية الاتجاه، بل هى حلقةٌ مفرغةٌ يُعزّز كلٌّ منهما الآخر. فالصراع يولّد الجوع كما رأينا، لكن الجوع بدوره يُغذّى الصراع، إذ يدفع كثيرين للانضمام إلى الميليشيات أو الجماعات المسلحة بحثًا عن الغذاء أو الحماية، كما يثير توترات اجتماعية حادّة فى المناطق التى تعانى من شحّ الموارد، ما يشعل نزاعاتٍ محلية جديدة. وبهذا، يتحوّل الجوع إلى وقودٍ إضافى للحرب، وتصبح الحرب مولّدًا دائمًا للجوع، فى دورةٍ معقّدة يصعب كسرها دون تدخّلٍ شاملٍ واستراتيجياتٍ متكاملةٍ تعالج جذور الأزمة.

• • •

أمام هذا المشهد الكارثى، لم يعد التعامل مع الأزمة فى السودان خيارًا مؤجّلًا أو مرتبطًا بتسوية سياسية شاملة فحسب، بل ضرورةً إنسانيةً عاجلة تتطلب تحرّكًا متعدد المستويات. فيتعيّن على المجتمع الدولى - عبر الأمم المتحدة وبرامجها الإغاثية والمؤسسات المالية الدولية - تكثيف الجهود الدبلوماسية لحماية قوافل الإغاثة وضمان احترام القانون الإنسانى الدولى، والضغط على طرفى النزاع لفتح ممرات إنسانية آمنة تضمن وصول المساعدات الغذائية دون عوائق، والعمل على زيادة حجم المساعدات الإنسانية الطارئة وتوسيع نطاقها لتشمل المناطق المحاصرة والمعزولة. كما يجب إنشاء مراكز تغذيةٍ علاجيةٍ متخصصة فى مخيمات اللاجئين لمعالجة الأطفال والنساء الأكثر عرضةً لسوء التغذية، مع توفير برامج التحويلات النقدية التى تمكّن الأسر من شراء احتياجاتها الغذائية محليًا.

أما بعد انتهاء الصراع، فإنّ الأولويات يجب أن تتجه نحو إعادة بناء القطاع الزراعى وتأهيل سلاسل الإمداد من خلال توفير مدخلات الإنتاج والآلات والمساعدات التقنية للمزارعين، وإصلاح البنى التحتية الحيوية كالطرق وأنظمة الرى، بما يضمن استعادة النشاط الزراعى تدريجيًا ويقلل من الاعتماد الكامل على الإغاثة الخارجية. ولا يقلّ أهميةً عن ذلك إصلاح مؤسسات الحكم وتعزيز الشفافية والعدالة، بما يضمن توزيع الموارد بشكل عادل ويمنع عودة النزاعات حولها.

أخيرًا، لقد تحوّلت الحرب فى السودان من صراع سياسى على السلطة والموارد إلى أزمة وجودية تهدد الدولة وتعيد رسم خريطة المستقبل الاقتصادى والاجتماعى للبلاد. إنّ السودان اليوم يمرّ بأحد أخطر لحظات تاريخه: صراع مشتعل على الأرض، وجوع يفتك فى صمت، وذاكرة عالمية آخذة فى النسيان. وهى معادلة صعبة يتطلّب حلّها إرادة سياسية محلية وجهودًا دولية منسّقة تعيد السودان من جديد إلى قائمة الأولويات الإنسانية قبل أن يفقد العالم فرصة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. فإنقاذ السودان من المجاعة ليس عملًا إنسانيًا فحسب، بل هو استثمار فى استقرار المنطقة بأكملها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved