دور لجامعات مصر فى صنع السياسة الخارجية
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 12 نوفمبر 2015 - 9:05 ص
بتوقيت القاهرة
يصعب إنكار أن المسئولين عن صنع السياسة الخارجية المصرية وتسييرها يجدون مشقة كبيرة فى صياغة دور جديد لمصر فى الإقليم وفى العالم. هذه المشقة ليست خافية والدلائل عليها كثيرة. نراها فى السقطات الرهيبة لبعض الإعلاميين، بخاصة هؤلاء الذين اختاروا مسايرة ما يبثه سفراء دول بعينها فيعيدون بثه دون تدقيق أو مراجعة، وهؤلاء الذين يترجمون أو يخطئون فى فهم إيحاءات أجهزة الإرشاد الإعلامى والتوجيه السياسى بدون تروى فيسيئون إلى حق شعوب وسياسات دول أخرى ويصيبون بالضرر سمعة الدولة المصرية. نرى هذه المشقة كذلك واضحة ومؤلمة فى مواقف مصر ومشاركاتها فى مداولات مجالس جامعة الدول العربية وبخاصة بعد أن تبنت الدبلوماسية المصرية نهج «الردح» أسلوبا للرد على ادعاءات الخصوم، رأينا المشقة أيضا فى غياب الرؤية المصرية لدى وفودنا المشاركة فى مؤتمرات الاتحاد الأفريقى، بل نراها فى مجمل علاقاتنا بالقارة الأهم فى حياتنا ومستقبلنا، وأقصد أفريقيا القارة التى تابعنا فى الأسابيع الماضية السباق المثير بين الصين والهند على لمن يكون نصيب الأسد من ثرواتها وتجارتها ودعمها السياسى.
رأينا المشقة فى نوع الثمار التى جنيناها نتيجة الزيارات الخارجية التى يقوم بها المسئولون المصريون. لا نتهم جهازا أو أحدا بسوء الأداء، ونرف إلقاء اللوم على مؤامرة دولية أو على نيات مسبقة لتخريب الزيارات أو الإقلال من شأنها ونتائجها، ولا نندفع وراء عذر سهل وقبيح فى آن واحد، وهو أن دولاً عديدة بحكوماتها وشعوبها، تكرهنا تاريخيا أو تمقتنا ثقافيا وحضاريا أو تحسدنا على كثافة سكان بلدنا وخفة ظلهم وعلى نهرها المتدفق بالخير وتاريخها الطويل.
المشقة واضحة أيضا فى ضعف التصريحات والبيانات الرسمية وفى أداء الإعلام الرسمى والخاص وفى تخبطه وتدنى مستواه، وواضحة فى مغالاة بعض المسئولين، وبعض الإعلاميين فى استخدام اللهجة الحادة والأسلوب الهجومى عند الرد على انتقادات أجنبية، وتفضيل هذه اللهجة وهذا الأسلوب على الحجة المقنعة والحوار الهادئ، وكلاهما يعكسان ثقة فى النفس وفى الموقف والمعتقد على عكس ما تعكسه اللهجة الحادة والأسلوب الهجومى.
•••
هذا عن وضوح المشقة التى يواجهها المسئولون المصريون فى صياغة دور أنشط وأقوى لمصر فى الإقليم وفى العالم، أما أسبابها فتبدو لنا أيضا واضحة ومفهومة أو على الأقل لا يصعب تفهمها. هناك مجموعة من الأسباب تتعلق بالعهد السابق، بخاصة تخليه المتعمد عن ممارسة دور منوط بمصر ورثه ورفض تطويره ودعمه. تدهورت فى ذلك العهد سمعة الدبلوماسية المصرية وانحسرت فاعلية معظم القوى الناعمة، وهى التى كانت فى حقيقة الأمر القاعدة الحقيقية التى اعتمدت عليها السياسة الخارجية المصرية فى الاقليم لعقود عديدة.
فى ذلك العهد، تلوثت سمعة الدولة المصرية حين جرى استخدام القمع والتعذيب بشكل فاضح، وحين انتشرت فى كل الأنحاء رائحة الفساد وممارساته، وحين هيمنت وسيطرة قوى «المال الدينى» على مقاليد العاصمة وعواصم المحليات فى جميع أنحاء مصر، وحين تدهور مستوى التعليم وخضعت نسب وأرقام نتائج امتحانات الشهادات العامة إلى اعتبارات سياسية مؤقتة ورخيصة.
•••
مشقة الانتقال من مصر اللادور، إلى مصر الدور، قائمة ومعقدة وسوف تظل قائمة إلى حين يكتمل ترشيد عملية صنع قرار السياسة الخارجية، أى حين تتوفر الرؤية والنية وإمكانات التنفيذ والانتقال إلى مصر الدور. وفى ظنى أن نية الانتقال إلى مصر الدور لدى المسئولين من قادة النظام القائم فى مصر متوافرة، وبحق، ورغم شكوك بعض المعارضين.
لا أحد تولى موقع المسئولية بعد نشوب ثورة يناير تمنى أو عمل على حرمان مصر من دور إقليمى كبير، ولكن المهم أن أحدا لم تكن لديه الرؤية الكلية الرشيدة للدور المنشود. كلهم أرادوا لمصر دورا ما وكلهم، فى رأيى، لم يحددوا بالدقة اللازمة شكل هذا الدور وحدوده ومستلزماته ووضعوا الخطة اللازمة لصياغته وطرحة للنقاش العام فى دوائر صنع السياسة والدوائر المستفيدة من السياسة الخارجية المصرية. أسمع من كثيرين فى أجهزة صنع القرار أو قريبين منها كلاما ينم عن حالة نوستالجيا لدى البعض منهم لدور كان لنا فى عهد أو آخر، وبالتالى يجب استعادته. تبقى حالة النوستالجيا والحنين إلى أمجاد دور انتهى مفيدة فى حالات الحاجة إلى تنشيط الوازع الوطنى لدى الشباب ولأغراض محددة كغرض البحث والدراسة وربما لتحفيز صغار الدبلوماسيين على تنشيط االفكر والإبداع .
•••
البديل المناسب لاجترار دور سابق هو فهم ودراسة تجارب الدول الأخرى فى محاولاتها صنع دور جديد لها فى إقليم تعيش فيه وقد تغيرت معظم معالمه وفى عالم خارجى تغيرت جميع توازنات القوة فيه. أستطيع وبكل ثقة أن أقول إن النسبة الأكبر بين الدول المتوسطة، مثلنا، تجرى فيها حاليا تجربة أو أخرى لصنع دور جديد ومختلف. بل وأراهن بنفس الثقة أن أغلبها يعيد التخطيط لوضع أسس وقواعد تصلح لسياسة خارجية جديدة تماما عن السياسة القائمة. أعرف مثلاً أن أكثر من دولة قام النظام الحاكم فيها باستطلاع آراء حكام الولايات والمحافظات والمدن الكبرى للتعرف على نوعية المصالح المحلية المرتبطة بعملية السياسة الخارجية. أتصور فى هذا الشأن مثلاً أن وزارة الخارجية المصرية لو سألت محافظ الأقصر لأبدى اهتماما خاصا بعلاقات مصر مع دول معينة يأتى إلى بلده منها أكرم السياح أو أكثرهم عددا، ولتمنى أن يكون لخبرائه المحليين حق إبداء الرأى فى طبيعة وشكل الإعلانات والملصقات السياحية وبرامج الترويج السياحى فى هذه الدول تحديدا.. أتصور كذلك أن محافظ البحر الأحمر حريص على أن يكون لخبرائه دور فى المحادثات مع دول كالصين تستورد منه مباشرة معادن الصحراء الشرقية وأحجار جبالها، وكروسيا مثلا التى كانت تزوده بأضخم وفود السياحة وأعرف مثلاً أن هناك فى أقصى شمال مصر قرى، صارت مع الوقت مدنا صغيرة، لها مشكلات دائمة مع دول أفريقية وعربية تسيئ معاملة صياديها الذين يخرجون بأساطيلهم إلى مياهها. مثل هذا الاهتمام برأى المحليات فى السياسة الخارجية ليس بدعة ندعو لممارستها. بل حقيقة ملموسة فى دول قررت النهوض سياسيا ودبلوماسية أو تفكر فى دور جديد لها.
•••
يبقى أمرا يؤرقنى وزملاء ورفاقا فى «مجتمع السياسة الخارجية المصرية»، أى بين جماعة المتخصصين فى العلاقات الدولية وسياسات مصر الخارجية. بخلاصة شديدة، يؤرقنا أن نعلم، وقد علمنا بالفعل، أن مناهج الدراسة فى الكليات والأقسام المتخصصة فى تدريس علوم السياسة فى معظم جامعات مصر لا تتضمن أقساما أو برامج تدرس إسرائيل وإيران والسعودية وتركيا ودولاً أخرى يجب أن نعترف بمكانتها المتميزة فى أولويات سياستنا الخارجية. أقول معظم جامعاتنا، ولا أقول جميع جامعاتنا لأننا، فى دراستنا الاستطلاعية، التى تجريها صحيفة الشروق عن المواد التى يدرسها طلاب العلوم السياسية المؤهلين نظريا لقيادة الدولة، لم نغط بعد بعض الجامعات الإقليمية والأجنبية والمملوكة لأفراد. ومع ذلك نستطيع أن نقرر وباطمئنان واستنادا إلى ما تم تجميعه من بيانات ومقابلات أن معظم، إن لم يكن كل، طلاب العلوم السياسية فى الجامعات المصرية يتخرجون منها بدون أن يدرسوا النظام السياسىى لأى دولة إقليمية مهمة، صديقة تقليديا أو عدوة تاريخيا. طلابنا الذين نعدهم لتنفيذ سياساتنا وأهدافنا القومية لم يدرسوا النظام الاجتماعى فى معظم دول الإقليم، لم يدرسوا عملية صنع القرار السياسى فى أى منها، لم يدرسوا جماعات الضغط والأحزاب والنخب الحاكمة والمتنفذة، لم يدرسوا العلاقات بين الدين والسياسة فى هذه المجتمعات، لم يدرسوا ظروف نشأة حزب العدالة والتنمية ودور أردوغان فى صعوده، ولم يدرسوا صعود اليمين الدينى المتطرف فى إسرائيل وتأثيره فى مستقبل السياسة والاقتصاد لدولة إسرائيل. لم يدرسوا تفاصيل السياسة فى المملكة العربية السعودية وتطور علاقة مصر بها، وربما لا يعرفون الكثير أو القليل عن نشأة ومسيرة وأداء النظام السياسى فى الدولة الإيرانية الإسلامية. لم يقرأوا ما كتبه المتخصصون فى دول الغرب عن دور المرشد فى صنع السياسة الخارجية، وعن قوى الإصلاح وضغوطها ودور الحرس الثورى الإيرانى فى صنع السياسة الخارجية الإيرانية ورؤيته لدوره فى التأثير على مسيرة النظام الإقليمى العربى وعلى توازنات هوياته وصراعاتها.
•••
لا أصف هذا الوضع بالمصيبة ولكن أصفه بالفضيحة كلما خطر على بالى أن بعض هؤلاء الخريجين، يتقدمون لمسابقات التعيين فى مختلف الأجهزة العاملة فى صنع السياسة الخارجية المصرية ومنها وزارة الخارجية. بمعنى آخر، يجب أن نعترف أن معظم من يتصدى للعمل الدبلوماسى وصياغة سياسات خارجية لمصر لم يتلقوا تعليما أساسيا فى نوعية النظم السياسية فى الدول المجاورة لنا والمؤثرة فينا حربا أم سلما، ولا فى أنماط علاقاتها الاقليمية والدولية، ولا فى توازنات القوى داخلها.
•••
تعالوا نبدأ من هنا إذا كنا قررنا فعلا صنع دور جديد لمصر فى الإقليم وفى العالم، وإذا كنا جادين فى رفع مستوى أدائنا الدولى، وإذا كنا حريصين على العودة بجميع أجهزة صنع السياسة الخارجية إلى مستوى أداء كان فى كثير من المواقف محل إشادة فى عهود ليست ببعيدة تماما.
مرة أخرى أنتهز فرصة انعقاد المؤتمر السنوى لمجلس الشئون الخارجية، الذى يضم عصارة المتخصصين فى علاقات مصر الخارجية على امتداد عقود لأقترح عليه قيادة الدعوة إلى تشكيل فريق عمل مختلط من وزارة الخارجية وأجهزة توصف صحفيا بالسيادية تساهم فى صنع السياسة الخارجية وعمداء كليات السياسة فى الجامعات المصرية، لوضع خطة مناهج وبرامج دراسات عليا تسد هذا الفراغ الخطير.