ماذا يغيب عن معادلة اقتصادنا؟

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 13 يناير 2025 - 6:45 م بتوقيت القاهرة

 

لمّا كانت المشكلة الاقتصادية الأزلية تكمن فى ندرة الموارد وتعدد الاحتياجات، فمن العبث أن نتظاهر بأن مواردنا غير نادرة وأن احتياجاتنا لا تنمو وتتنوّع بمرور الزمن. الاقتصاد المصرى يعانى من أمراض مزمنة تتمثّل فى نقص الإنتاج والإنتاجية لمختلف عناصر الإنتاج، وتفاقم مستمر فى العجزين (عجز الموازنة العامة وعجز ميزان المدفوعات) وزيادة فى الاعتماد على الديون (الداخلية والخارجية) لتمويل احتياجات النمو والتوزيع، وتضخم لزج يأكل كل ثمار التنمية ويرفع من معدلات الفقر والبطالة (بمفهومها الواقعى وليس النظرى الذى يخرج ملايين الإناث من القوى العاملة)، وشح مستدام فى العملة الصعبة المطلوبة لسد العجزين وتعويض نقص الإنتاج وسداد الديون.. وهذا كله فى سياق من الندرة النسبية (والمطلقة أحياناً) لكثير من الموارد المطلوبة للتنمية.

على خلاف ما تذكر كتب الدعاية المدرسية، ويردد بعض السياسيين وخطباء المنابر، مصر دولة شحيحة الموارد الطبيعية، فهى تعانى بنيويا من فقر مائى وفقر طاقى متمثليْن فى انخفاض نصيب الفرد من المياه ومختلف مصادر الطاقة، فضلا عن فقر فى المعادن الأساسية التى تنعكس سلبا على نصيب الفرد من الصلب والألومنيوم والنحاس.. وتلك مؤشرات هامة تعكس زيادتها تقدّم ورفاهية الشعوب. وإذ تتمتع مصر بموقع جغرافى متميز، ومناخ مستقر وآمن نسبيا من التقلبات المتطرفة، التى تفاقمت مع تحوّلات المناخ الكبرى فى مختلف دول العالم، فإن ريع هذه الميزة لا يتحقق على النحو المُرضى، لأسباب كثيرة، منها ما يتعلّق بمتطلبات استغلال تلك المزايا لجذب الاستثمار الأجنبى والسياحة الأجنبية، والتى تفتقر إلى التمويل والتدريب والمؤسسات المؤهلة، ومنها ما يتصل بالتهام الزيادة السكانية لمعظم ثمار التنمية، علما بأن ذلك النمو السكانى يتمدد على مساحة صغيرة من الأرض، وأن هذه الزيادة الطبيعية (وإن تراجعت معدلاتها خلال السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ) تنشأ فى ظروف ينهشها الفقر وتردى الخدمات وتراجع مقومات التنمية البشرية، ومن ثم تراجع إنتاجيتها بشكل مستمر، فتصبح أقرب إلى العبء منها إلى الأصل البشرى المنتج.

كما أن بعض تلك الزيادات تحدث بشكل غير طبيعى، نتيجة للهجرات الوافدة من الدول المحيطة، والتى تطردها عوامل جيوسياسية، فتأتى للمنافسة على الموارد الشحيحة بما يفاقم التضخم، ولا تساهم بشكل فعّال فى أى نشاط إنتاجى ذى قيمة مضافة حقيقية.

 •  •  •

 تلك مقدمة تشخيصية ضرورية، قبل الشروع فى الحديث عن المعادلة الاقتصادية الناجعة للخروج من هذا المأزق الذى فرضته الطبيعة، وعمّقت منه السياسات الحكومية المتعاقبة، والتى لم تكن تشتبك مع المشكلة الاقتصادية إلا بصورة مجتزأة، ولا تتعامل مع الأمراض ولكن مع الأعراض (مثل الشح الدولارى وارتفاع التضخم والديون)، والتى تحوّلت مع الزمن وسوء العلاج إلى أمراض لها أعراضها الخاصة، كما إنها كانت ومازالت سياسات غير معززة بحيز مالى معتبر، نتيجة التهام الأمراض والأعراض سالفة الإشارة لجانب كبير من موارد الحكومة، والتهام السياسات الحكومية الخاطئة (ومنها التوسّع فى النشاط الاقتصادى المزاحم للقطاع الخاص) لجانب آخر كبير، عبر أعباء سداد الدين، وانخفاض ربحية المشروعات، وتراجع الإيرادات الضريبية.

المعادلة الاقتصادية للعلاج يجب أن تتصل إذن بجانبى معادلة المشكلة الاقتصادية، فالتعامل مع جانب واحد فقط من المعادلة مثل ندرة الموارد، يهمل الزيادة فى الاحتياجات بمتوالية هندسية، لا تقوم فقط على الزيادة الطبيعية وغير الطبيعية للسكان، ولكن أيضاً على تعقّد نسق الاحتياجات لدى المستهلكين بفعل الدعاية والإعلام وشبكات التواصل، والتى ساهمت جميعاً فى تحويل الكثير من المطالب الثانوية والكماليات إلى ضروريات لا يمكن للمستهلك الاستغناء عنها، وعمّقت من الفجوة بين العرض والطلب، لصالح صدمات عنيفة فى جانب نقص المعروض السلعى والخدمى. بل إن التركيز على بعض عناصر جانب ندرة الموارد دون سائر العناصر، يتسبب فى إسقاط عوامل مؤثرة من معادلتى التشخيص والعلاج، ولا يفضى إلا إلى أمراض متحوّرة من نوع جديد، تنشأ بعد تخدير وهمى للألم وتأخير لأمد العلاج.   

غياب متغير فى معادلة ما، يمكن أن يكون له تأثيرات كبيرة على الدقة، والتحيز، وتفسير النتائج، وإذا كانت الحكومة قد عقدت العزم على زيادة الإنتاجية -مثلاً- دون النظر إلى تدهور خصائص جميع عناصر الإنتاج (خاصة البشرية) فإن تلك الزيادة (إذا تحققت) لن تتمتّع بالكفاءة المطلوبة، وقد تنشأ مستندة إلى مزيد من الديون مرتفعة التكاليف (لاحظ أن تكلفة الدين مرتفعة فى العالم كله، وتزيد بشكل خاص فى بلادنا ذات التصنيف الائتمانى المتدنى والمخاطر المرتفعة). هنا يجب البدء دائماً من جذور المشكلة حتى لو تأخرت الثمار، لأن الجذور الرديئة لن تحقق أبداً أى تنمية حقيقية مستدامة.

المشكلة فى التعامل مع منابت الأزمات أنها لا تحقق نجاحا سياسيا سريعا، وبالتالى فإنها لا تلقى شعبية فى دوائر صنع القرار، خاصة إذا كانت تتعارض مع طموحات الموظف العام، الذى يتوقّف مصير ترقيته على مقدار ما يحققه من مكاسب سريعة ونتائج فورية! التعليم مثلا، وهو الذى فطنت دولة مثل سنغافورة إلى ضرورة البدء بتطويره والاستثمار فيه قبل أى شىء، لا يؤتى ثمارا عاجلة، ولكن التغيير الذى يحدثه فى المجتمعات والدول ليس له مثيل. الاستثمار فى التعليم والصحة يعمل على جانبى المعادلة الاقتصادية، فهو من ناحية يرفع من خصائص العنصر البشرى ويحسّن إنتاجيته ويثقل مهاراته، ويثقل شعوره بأهمية تحسين مركزه المادى بالادخار وترشيد الإنفاق، فينعكس ذلك على الناتج المحلى الإجمالي، ليصبح معززا بشكل أكبر بالاستثمار عوضا عن الاستهلاك الذى هو الوقود الأعظم حاليا للنمو الاقتصادى فى مصر. ومن ناحية أخرى، يساعد التعليم على زيادة وعى الفرد والأسرة، فيتراجع معدّل الإنجاب لصالح التركيز على الكيف لا الكم، استشعارا بقيمة الطفل فى الأسرة، وأنه ليس عنصرا للإنتاج ومساعدة والديه فى المعايش عبر استغلاله فى أعمال لا تناسب طفولته! بل هو عبء محمود على تلك الأسرة، حتى ينتهى من تعليمه ويتمكّن من بناء أسرته الخاصة. كذلك يوفّر التعليم الجيد على الدولة مليارات الجنيهات التى تنفقها لأغراض التوعية عبر وسائل ووسائط إعلامية مختلفة بغرض وقف المد المتطرف فى البلاد، ومنع تغيير جينات المصريين من خلال استيراد أفكار بدوية لا علاقة لها بالدين.

 •  •  •

 التعليم إذن هو المتغير الأهم والعاجل فى المعادلة، وهو شديد الاتصال بعناصر الاقتصاد والمشكلة الاقتصادية، ويتقاطع مع التمويل، والإصلاح المؤسسى، والترشيد، والتخصيص الأمثل للموارد، واستغلال المورد الطبيعى «الوحيد» الذى تحظى فيه مصر بوفرة كبيرة وهو السكان. لكن الاهتمام بالاستثمار فى العملية التعليمية قد لا يحظى بالأولوية فى كثير من الحكومات، نظرا لما سبق أن أشرنا إليه من تأخّر ثماره، بما يجعل العائد المتحقق منه من نصيب شخص آخر وربما جيل آخر غير الجيل الذى نثر البذور، لكن التاريخ لن يعجز عن إنصاف من قاموا بتلك التضحية. كما أن الاستثمار فى التعليم باهظ التكلفة، ويتطلب تفرّغ الحكومة (فقيرة الموارد كثيرة الأعباء) للعناية به وبالصحة على حساب معظم الأنشطة الأخرى وفى مقدمتها الإنفاق الاستثمارى العقارى والتجارى.

وإذ يطول الحديث فى هذا الباب بما يضيق به هذا المقال، فإن البداية الواقعية العاجلة للتعامل مع أزمتنا الاقتصادية الراهنة تكون بالتقشّف الحكومى القائم على تقليص الحكومة إلى ثلث حجم وزرائها اليوم، وبما يدور فى فلك خدمة عناصر التنمية البشرية للمواطن وفى مقدمتها التعليم والصحة، وبما يتسق مع سياسة نقدية متشددة تكافح التضخم للسيطرة العاجلة على تداعياته الخطيرة.  

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved