الشعب يريد ضمانات
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 13 فبراير 2014 - 11:25 ص
بتوقيت القاهرة
ناصريون فى كل مكان. ناصريون على شاشات التليفزيون وفى الإذاعات والصحف وفى وسائط التواصل الاجتماعى. آمالهم كبار، هم وأعداد متزايدة من المتشيعين لهم، يعتقدون أنه لا يوجد حل للأزمة السياسية المصرية إلا باستعارة «التجربة الناصرية» بجميع عناصرها. بالزعيم المنقذ، والجيش الوطنى الحامى له، وتجمع أو تنظيم أو جبهة وطنية تساند وتشجع وتشترك فى حماية النظام، ومجموعة شعارات أو عناوين لأحلام وطموحات، ونخبة مختارة من الكفاءات محل الثقة لإدارة شئون الدولة خلال فترة إعادة البناء ودور جاهز لمصر فى عالمها العربى.
حنين طاغ لمرحلة حلت بمصر فى أعقاب فوضى سياسية كبيرة وعمليات تخريب وتدمير من جانب جماعات من الغوغاء وتجربة تمرد من جانب الشرطة وأحداث عنف فى المدارس والجامعات. حلت المرحلة لتستعيد لمصر الاستقرار وللقضاء على جماعات الغوغاء والبلطجة التى نشرت الحرائق فى أنحاء العاصمة وتوقيف عناصر الفساد فى قمة السلطة، سواء فى القصر الملكى أو خارجه، ومنع استشرائه فى أنحاء الوطن.
•••
هنا ينقطع، أو يجب أن ينقطع، حبل التشابه بين الأزمتين، أزمة مصر فى أوائل 1952 وأزمة مصر فى أوائل 2014. إنه الحبل الذى أراه وقد أمسك به الكثيرون يحاولون بكل الجهد أحيانا وبالاختلاق وإعمال الخيال أحيانا أخرى، أن يمدوه طويلا وكثيرا حتى تبدو الأزمة الراهنة صورة مكررة لأزمة قديمة. رأيتهم يذهبون إلى أبعد الحدود وراح خيالهم يشق عنان التاريخ. سمعت من يقول أن حربا باردة كانت ناشبة بين القطبين الأعظم، وها هى تكاد تنشب من جديد. وسمعت من يردد بثقة أن مصر كانت لتوها خارجة من حرب ضد إسرائيل وواجبها الاستعداد لحروب أخرى، وها هى مصر مشتبكة فى حرب ضد إرهاب أخطر من إسرائيل ومن الصهيونية العالمية وواجبها الاستعداد لحرب طويلة مع هذا العدو الأخطبوطى، المعتمد على مؤامرة أمريكية ــ ماسونية ــ يهودية. وعن الظلم الاجتماعى يتحدثون، فالفجوة فى الدخول ومستوى المعيشة بين الاقطاعيين وملاك الأراضى والفلاحين كانت رهيبة فى اتساعها، لا يعادلها إلا الفجوة الراهنة فى الدخول ومستوى المعيشة بين رجال الأعمال من ناحية وسكان العشوائيات وقلوب المدن من ناحية أخرى.
كانت لنا أرض فى سيناء يهيمن فيها ويعسكر الاستعمار البريطانى ويمنعنا من استغلالها وتنميتها، ولنا اليوم أرض هناك يعبث فيها الإرهاب الإسلامى فسادا وعنفا. كان لنا فى أمريكا أمل وحلم. الأمل أن تقف فى المحافل الدولية إلى جانب مصر ضد الإنجليز والحلم أن تمد جيشنا بالسلاح. ولم تمض شهور إلا وتحول الأمل سرابا والحلم كابوسا. تصادمت الإرادتان، إرادة الهيمنة وإرادة الاستقلال الوطنى. كل هذا متوافر الآن فى ظل أجواء غائمة وأمواج متلاطمة. موجود الأمل والحلم ومعهما، فى اللحظة نفسها، خيبة الأمل والكابوس والرغبة فى الهيمنة والحاجة إلى تأكيد الاستقلال الوطنى.
بال مصر فى 1952 كان مشغولا بأطماع العراق فى سوريا، وبخطط وأطماع الملك عبدالله فى فلسطين، وبراديكالية السياسات والانفعالات السورية ابتداء من خرق الأعراف الدولية بشراء سلاح سوفييتى إلى ممارسة هواية الانقلابات العسكرية باعتبارها الوسيلة الأسرع لحماية مصلحة أو أخرى من مصالح القوى الغربية والوسيلة الأسرع لعسكرة العمل السياسى فى سوريا، وكسر شوكة القوى الأيديولوجية فى المنطقة.
بال بعض حكام مصر الآن، أو على الأقل ما ظهر لنا من هذا البال، مشغول أيضا بالهلال الخصيب الممتد من النهرين إلى مياه المتوسط، مشغول بالفوضى الطائفية المدمرة فى العراق وبالمستقبل المرعب الذى ينتظر شرق أوسط جديداً بدون سوريا أو بسوريا أخرى يعكف على صنعها أو تأليفها متخصصون فى مراكز بحوث غربية. مشغول أيضا بلبنان حيث يجرى يوميا اختبار أو آخر لتوازنات القوة فى الشرق الأوسط.
إلى جانب هذا كله، أتصور أن بال من يحكم مصر هذه الأيام، ومن يستعد لأن يتحمل تبعات الحكم بدافع الضرورات أو بدوافع أخرى، لا بد أن يكون مشغولا بكل جديد يطرأ على أحوال تونس. لا أحد فى موقع سلطة فى مصر، الآن أو فى المستقبل، يجازف بنسيان حقيقة تاريخية رسخت فى وجدان المنطقة، وبخاصة فى وجدان الشعبين التونسى والمصرى، وهى أن سيرة انفتحت هناك ولم تغلق. ستبقى مصر من الآن فصاعدا تحمل هموم حماية حدودها وأجوائها ومدنها ضد العواصف القادمة من ليبيا، وضد تداعيات سودان تمزق ومهدد بتمزق أشد، وستبقى لفترة قادمة غير قصيرة مترددة فى اختيار الأسلوب الأمثل فى التعامل مع أفريقيا الغاضبة حينا والمتحاملة علينا والقاسية ضدنا حينا آخر، مدفوعة بمصالح وقوى خارجية ولكن وهو الأهم خائبة الأمل لإهمال بدر منا وتجاهل وتعالى.
•••
ظروف الأزمتين تبدو متشابهة فى نظر كثير من الذين يحنون إلى مرحلة، أغلبهم لا يعرف تفاصيلها وبعضهم لا تهمه التفاصيل، وأغلبهم لا يعرف حقائق استجدت وبعضهم لا يريد أن يعرف. أقول لهؤلاء إنه حتى وان تشابهت الظروف إلى أقصى حد ممكن، لا تراهنوا على أن الطريق الذى سلكه الأوائل يصلح لأن يسلكه الأبناء والأحفاد بعد ستين عاما. الحنين قد يخفف بعض الأوجاع وقد يحمل بعض الناس على جناحيه نحو عوالم أخرى لا تمت للواقع الأليم بصلة. الحنين قد يفيد فى تنشيط الذاكرة الوطنية وفى تأهيل القادة والحكام مثله مثل التمارين الذهنية. ولكن استنساخ نظام حكم بحذافيره وفلسفته بدافع الحنين لن يحقق أوتوماتيكيا إنجازات حققها النظام الأصلى، وتجربة الصين فى هذا المجال رائدة. فالحنين الجارف فى الصين لتجربة الرئيس ماو تسى تونج لم يحفز قادة الحزب الشيوعى الصينى على استعادة الماوية نظاما للحكم.
أفهم شعور رد الاعتبار لدى البعض، ها نحن نعود برهانا على أن التجربة كانت ناجحة ومازالت صالحة. أفهم أيضا عجز هؤلاء الذين لم يجدوا بديلا عصريا يغنى عن العودة لسلوك طريق كان ممهدا بأدوات عصره وإمكاناته ولا أظن انه يتحمل تكنولوجيات عصرنا بتعقيداتها وارتباطاتها الخارجية. كذلك لا أظن أنه، وهو منزوع من بيئته التاريخية والاجتماعية، قادر على التعامل مع النظام العربى الراهن على الأسس نفسها التى تعاملت عليها مصر فى الخمسينيات من القرن الماضى. مصر الراهنة، حين تتعامل مع دول عربية فهى تتعامل، شاءت أم أبت، من موقع دولة نشبت فيها ثورة مع دول لم تنشب فيها ثورات، وحريصة كل الحرص على أن تخلع مصر عن نفسها رداء الثورة. أظن، وأنا مستند فى ظنى هذا إلى أحكام التاريخ، أن مصر فى ظل حكومتها الراهنة أو القادمة لن تكون قادرة فى أى وقت منظور على أن تنخلع عن ثورتها وربما لن تريد بمشيئتها الحرة أن تفعل ذلك، والأسباب كثيرة وراء اقتناعى بهذا الظن أو الرأى. أبسط هذه الأسباب وأقربها إلى تجارب السياسة والحكم، هو أن شرعية حكام مصر ولفترة قادمة غير قصيرة ستبقى معلقة بالثورة وبما أفرزته من قيم وأهداف، تحققت أو لم تتحقق.
أعرف أن عودة مصر إلى ممارسة نشاط معتبر فى النظام العربى ضرورة لا غنى عنها، ضرورة وجود وليست ترفا قوميا أو زهوا وطنيا. ولكن للعودة الكريمة شروطها، أهمها أن تتم بالأفعال وليس بالكلمات والشعارات، وبالفهم العميق لحجم وعمق التحولات والحقائق التى جرت أو استجدت فى العالم العربى وفى الشرق الأوسط فجعلتهما مختلفين جذريا عن واقع الخمسينيات. من هذه الشروط أيضا أن تكون العودة عن طريق الإرادة الحرة وليس عن طريق التكليف ومحسوبة تداعياتها بالحسابات القومية والوطنية وليس فقط بالحسابات المالية. أعرف أيضا أن قضية أفريقيا، وفى صدارتها المسألة المائية، ضرورة شدت الكثيرين إلى الحنين. ولهذه الضرورة أيضا شروط. العودة إلى أفريقيا تتطلب توافقا وطنيا شاملا، بمعنى ان تجرى العودة وبخاصة إلى مصادر المياه جميعها، ضمن منظومة يجتمع فيها العلم والطاقة وخبرات الزراعة والرى بالإضافة إلى الدبلوماسية والسياسة والتجارة والصناعة، منظومة أمن قومى بالمعنى الدقيق، وليس بمعنى الأمن العسكرى والاستخباراتى وحده كالعهد بالسنوات التى فتكت بالعلاقات المصرية الإفريقية.
•••
لا أتصور، بل لا أصدق، أن نظام الحكم القادم سواء اختار أن يأخذ شكل وجوهر تجربة سابقة أو أن يبدع فيصنع تجربة حديثة، سوف يصر على أن يستخدم القمع وكبت الأصوات وإقصاء المعارضين وسائل لتحقيق الاستقرار وتنفيذ أهدافه. أدرك، وأكثر الذين أعرفهم يدركون، أن النساء والرجال الذين سوف يتولون القيادة فى السنوات القادمة عاشوا مرحلة ثورة، وتأكدوا بأنفسهم وفى داخلهم أن شيئا ما كبيرا وجوهريا وموضوعيا تغير فى مصر.
أتمنى، بالأمل والرغبة الصادقة، ان القادة القادمين محمولون على أكتاف الضرورات والقوى القاهرة والأحوال المتردية فى مصر ومن حولها، سوف يحرصون على تفادى الوقوع فى أخطاء قادة تجربة الخمسينيات، وهى كثيرة.. لا أحد من هؤلاء الذين راودهم الحنين إلى التجربة الأولى يريد أن تنتهى التجربة الجديدة كما انتهت التجربة الأولى بحسنى مبارك وبسقوط مدوى للتجربة بأسرها وبتدهور حال مصر. لا أحد منهم، حسب علمى، يريد أن يرى مأساة الصراع على السلطة تتكرر، فلا يحدث بمصر مستقبلا ما حدث من صراع فى الستينيات أدى مباشرة إلى هزيمة عسكرية مازلنا ندفع ثمنها باهظا.
الشعب يريد ضمانات. الشعب يريد أن يطمئن إلى أن الثورة مستمرة، وأن حرياته وحقوقه مصانة، وأن كرامته لن تهان مرة أخرى تحت أى ظرف أو لأى سبب. يريد أن يصدق أن القيادة الجديدة، سوف تحترم التزامها إقامة حياة سياسية حقيقية وخلق الظروف المناسبة لإرساء قواعد ديمقراطية، وإقامة المؤسسات التى تستطيع التعامل مع الضرورات والقوى القاهرة وعدم انتظار البطل أو المنقذ.