«شعرنا الحديث إلى أين؟».. الحداثة المفقودة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 13 مايو 2023 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
(1 )
لعل من الظواهر اللافتة فى مجمل الخطاب النقدى للناقد الراحل غالى شكرى (1935ــ 1998) هذه الغزارة اللافتة وهذا التنوع الكبير فى معالجاته النقدية؛ نظرا وتطبيقا ومراوحة بين الأنواع الأدبية الحديثة كلها (الشعر، الرواية، القصة، المسرحية) فضلا على كتبه الأصيلة التى خصصها لدراسة الخطاب الإبداعى لكاتب معين أو أديب بذاته (نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، يوسف إدريس) أو دراسته لخطاباتٍ نقدية (محمد مندور، سلامة موسى، طه حسين.. إلخ).
كان جهد غالى شكرى متنوعا ومذهلا فى قدرته على الاستقصاء والجمع والنظر والتأمل، وقدرته أيضا على صياغة موقف واضح من الظاهرة الأدبية أو (الإبداعية عموما) التى يخضعها للدراسة ويحلل نصوصها. كل هذا فضلا على محاولته الطموح لكى يؤسس مشروعا نقديا متعدد الروافد، يهدف إلى استخلاص القانون العام لمسيرة الأدب العربى الحديث، واكتشاف منابع الإبداع فيه.
وكما عهدناه فى كتبه النقدية الرصينة؛ سواء عن أهم وأبرز كتاب العصر فى أدبنا العربى (نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس) أو فى تأصيله النظرى للفنون والأنواع الأدبية الحديثة، يقدِّم غالى شكرى درسا رفيع المستوى فى معنى «البحث الأدبى» و«القراءة المعمقة» و«التحليل الدقيق» و«التفسير»، والربط العضوى بين الظاهرة (الأدبية أو الإبداعية أو النقدية) ومرجعها الاجتماعى وسياقها الثقافى والحضارى والتاريخى، وفق فهم محدد لهذا المجتمع وتكويناته، ومراحل تطوره.
(2)
فى كتابه «شعرنا الحديث إلى أين؟» الذى أعادت هيئة قصور الثقافة إصدار طبعة جديدة منه ضمن أعداد سلسلتها القيمة «كتابات نقدية»؛ يقدم غالى شكرى مثالا حيا وناصعا على هذه القدرات النقدية والملكات التحليلية التى أشرت إليها أعلاه. فهذا الكتاب بالتحديد واحد من ثلاثة كتب نقدية عميقة؛ راوح فيها غالى شكرى بين التنظير النقدى والمعالجة النصية وفق إطار تحليلى منهجى لا يفارق أدبيات النقد الاجتماعى فى تجليه الماركسى «الواقعى».
وأتصور أن هذا الكتاب كان من الكتب المبكرة فى نقدنا العربى الحديث الذى حاول أن ينظِّر ويؤصل لحركة واتجاهات الشعر العربى الحديث، منذ بواكيره التجديدية «الرومانسية» فى الثلث الأول من القرن العشرين، وحتى صدور الطبعة الأولى من الكتاب فى أواخر ستينيات القرن الماضى (1968)، بل أيضا واستنتاج ملامح الموجات الشعرية التى تلَت اللحظة التى انتهى فيها من الكتاب.
حيث يضم الكتاب قراءة تحليلية وافية لأعمال من كانوا فى تلك الفترة شعراء الاتجاه الجديد فى الشعر العربى؛ بدءا من نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتى، ومرورا بصلاح عبدالصبور، أحمد عبدالمعطى حجازى، وخليل حاوى، ووصولا إلى بلند الحيدرى، وأنسى الحاج، وأدونيس.
(3)
فى «شعرنا الحديث إلى أين؟» يقدم شكرى تحليلا متأنيا ومستبصرا لنصوص الشعر العربى الحديث، فى أنضج وأبرز تجلياته التجديدية على مستوى الشكل والمضمون، وفى حدود الأدوات التحليلية التى كانت متاحة للناقد الاجتماعى «المكرّس» فى عقد الستينيات من القرن العشرين؛ محاولا الموازنة بين رصد الخيوط الأساسية فى رؤية الشعراء من ناحية، ومتابعة المتغيرات التى حلَّت عليها من ناحية أخرى، والكشف عن استجابات القصيدة الشعرية لتحولات الواقع من ناحيةٍ ثالثة.
وكان منطلق غالى شكرى الأساسى الذى استهل به مقاربته للحركة الشعرية هو مفهوم «الحداثة» فى بعدها الفكرى والحضارى والثقافى الذى لا يفصل النشاط الإبداعى (وضمنا الفنون والأنواع الأدبية وفى القلب منها فن الشعر) عن مجمل تطور الحركة الاجتماعية، ومساراتها التاريخية، كاشفا النقاب عن ظروف وملابسات وسياقات نشوء هذه الحركة الشعرية العربية الحديثة، ثقافيا وحضاريا، مستقصيا أهم أصولها وقواعدها، فضلا على رصد أهم القضايا والموضوعات التى ارتادها أعلام هذه الحركة الشعرية الصاخبة التى لم نشهد لها مثيلا ــ فيما أتصور ــ حتى وقتنا هذا.
(4 )
بقدرةٍ عالية على الاستقصاء والضبط المنهجى والتصنيف الموضوعى، قدم غالى شكرى واحدة من أعمق الدراسات النقدية (بغض النظر عن اتفاقنا الكامل أو اختلافنا مع بعض المنطلقات النظرية أو التفسيرات النصية) لحركة الشعر الحديث بشطريه الفصيح والعامى، ومغطيا «جغرافيّا» الرقعة الهائلة من العالم التى تسمى العالم العربى!
عن هذه القدرة النقدية الاستقصائية الفذة، يقول الروائى الراحل خيرى شلبى: «كان من الواضح أن لديه مشروعا نقديا كبيرا يريد أن يتفرغ له ويستكمله، وهو مشروع سرعان ما اتضح ونضجت ثماره: الإسهام فى رفع مستوى الأداء فى الأدب العربى، والوصول بالأدب العربى إلى مستوياتٍ تناطح الآداب العالمية، ونشر الكثير من القيم الأدبية على الساحة وإشاعة مناخ من التنوير الأدبى».
ولعلى أضيف إلى ما قاله الراحل خيرى شلبى، إن غالى شكرى كان طوال عمره مهموما ومهجوسا بالأدب العربى فى جميع حقوله هما أصيلا، يحلم بتطويره ووضعه فى مكانته اللائقة بين آداب العالم، وكذلك بتطوير حركة النقد الأدبى، والربط بين أجيال الأدب والمبدعين من مختلف التيارات والاتجاهات، وإنشاء معابر اتصال وقنوات تواصل بين القديم والجديد، بين التقليد والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة، ولعل هذه القيمة من أهم ما ميز غالى شكرى فى كتاباته ومشروعه ككل.
(5 )
والكتاب بهذا المعنى ــ من وجهة نظرى ــ يعد من أهم ما كُتَب فى نقد الحركة الشعرية الحديثة (إن لم يكن الأهم فى تلك الفترة التى ظهر فيها الكتاب) ليس فقط بما عرض من تجارب شعرية متنوعة، واتجاهات فنية فى تشكيل القصيدة، وتأصيل نظرى وتصنيف موضوعى لاتجاهات هذه الحركة، بل أيضا يمكن اعتباره من زاوية أخرى ــ فيما أتصور ــ أهم جهد بحثى مرجعى سعَى إلى رسم خريطة نقدية كلية وشاملة لمسارات الحركة الشعرية العربية الحديثة، وتجلياتها الفنية وتنوعاتها الجمالية؛
حيث ناقش الكتاب بشكل عملى منهجى الخصائص الجمالية للتجربة الشعرية العربية فى ذروة توهجها واشتعالها فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، بتموجاتها وتشكلاتها التى اجتهد غالى شكرى ببصيرته النقدية النافذة وذائقته العالية فى استخلاصها ورسم ملامحها.